مَا هيَ إلا أيام مضت وأسابيع انقضت على سقوط العاصمة الليبية طرابلس بيد الثوار الليبيين بعد فرار الطاغية القذافي مهيناً حقيراً ذليلاً ومعه أولاده ومن تبقى من أركان نظامه ممن ساءهم الحظ فبقوا معه حتى النهاية. وكان ذلك في نهاية شهر رمضان المبارك أواخر آب أغسطس 2011م. حيث كان فراره إلى مدينة سرت معقله الأخير الذي تحصّن فيه مع كتائبه ومرتزقته الموجودين فيها.
وبسقوط العاصمة بيد الثوار وانتقال المجلس الوطني إليها برئاسة مصطفى عبدالجليل فقد سقط نظام القذافي ودولته ومملكته ولم يعد أمام الثوار والمجلس الانتقالي إلا ملاحقته والبحث عنه في مخبأه الذي هو فيه. ورَغم نشوةِ النصر التي شعر بها الثوار الليبيون بعد سقوط العاصمة لأِن المعلوم أن سقوط العاصمة يعتبر سقوطاً للدولة والنظام غير أن الثوار والمجلس الانتقالي لم يستعجلوا في الهجوم على مدينة سرت وتدميرها بُغيَةَ الوصول إلى إلقاء القبض على القذافي وأولاده ومن تبقى معه من زبانيته وأركان نظامه وإنما استخدموا العقل والحكمة في الحفاظ على أرواح السكان المدنين وتم إمهال القبائل في سرت وإعطائهم أيام وأسابيع حتى يقوموا بالتعاون مع الثوار في إلقاء القبض على القذافي ومن معه. وكل ذلك حتى لا تكون التكلفة كبيرة والثمن باهظاً لاسيما وان القذافي ومرتزقته قد اتخذوا من المدنين رجالاً ونساءً وأطفالاً دروعاً بشريةً تقِيهم من ضربات الثوار الموجعة. ولان الثوار حريصون على إحراز النصر بأقل تكلفة من الضحايا فقد تحلوا بالصبر والصبر مفتاح الفرج وأساس النصر ودرع المقاتل في مواجهة الطغاة. وبالصبر يبلغ الإنسان ما يريد قال الشاعر: إلى بالصبر تبلغُ ما تريدُ وبالتقوى يلينُ لك الحديدُ.
واستمر الثوار بين كر وفر مع كتائب القذافي ومرتزقته بقصد دخول سرت للقبض على القذافي ومن معه واستمر الحال على ذلك حتى مُنِيَتْ كتائب القذافي ومرتزقته بالويلات والهزائم وجاءت ساعة الصفر وكانت النهاية المخزية في 20/10/2011م حيث سقط ملك ملوك أفريقيا وعميد الزعماء العرب هُبل الأكبر قتيلاً ومعه وزير دفاعه أبو بكر يونس الذي قاد عملياته العسكرية ضد الثوار في سرت والذي فضَّل ولا حولَ ولاقوة إلا بالله أن تكون نهايته بهذا المشهد المهين ويُحشَر المرء مع من أحب كما قُتِلَ المعتصم بن القذافي وآخرون معه وهكذا عروش الطغاة والجبابرة تتهاوى وتسقط بين حينٍ وآخر وتداس تحت الأقدام. وإذا كان يوم مقتل القذافي هو يوم الخزي والعار له ولأتباعه فانه يوم الذّلِ والمهانة لمن لم يتعظ وسيلحق به فالسعيد من اتعظ بغيره. وبالمقابل فإنه يوم العزة والكرامة والحرية للشعب الليبي وللشعوب العربية.وهو يوم يُعاد فيه صياغة التاريخ من جديد وبأحرف من نور سواء صحتْ رواية مقتل القذافي داخل السرداب أو أثناء فراره من سرت إلى مصراته أو أثناء مداهمته تحت الأرض، فالنهاية واحدة وهي الموت المحقق الذي توعد به شعبه عندما كان يقف خطيباً في باب العزيزية وهو في شكله المُهَوس منتفخة أوداجه. فتارة يرفع صوته وأُخرى يدق بيده على الماسة التي أمامه وتارة يرفع الورقة التي بيده ويهوي بها إلى الأرض. وهو القائل (سنقاتل الجرذان دار دار...الخ) ولكن الله خيب آماله وأصبح هو الهارب والفار وشعبه المنتصر يُطارده ويبحث عنه بيت بيت دار دار حتى تمكنَ من قتله وشَّربَهُ شعبه كأس الموت الذي كان يسقيهم منه. وصدق الله القائل (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) والقائل (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ) والقائل ( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) وها هو المجلس الانتقالي يستعد لتشكيل حكومة انتقالية وهو بداية عهد جديد لبلد جديد صنعه الليبيون لأنفسهم بثورتهم السلمية المباركة. وهذه هي الثورة الحقيقية التي صنعت المعجزات وأسقطت عروش الطغاة.
أما ثورة الفاتح من سبتمبر الذي كان يتشدق بها القذافي في حياته فليست ثورة وإنما كانت عهدٌ للاستبداد والدكتاتورية التي بدأت منذ عام 1969م وانتهت في أكتوبر 2011م وهي مدة تولي القذافي للحكم في ليبيا (42عاما). وبمقتل القذافي أصبح الكل مرتاح واحتفلت الشعوب وابتهجت بالأفراح وبسماع ذلك تَشَافى المرضى وألتأم الجراح، لاسيما بعد سقوط السفاح. وما أجمل تلك الانطباعات التي أبداها الليبيون بعد مقتل الطاغية بساعات مُظهِرين فَرحَهم ومُتسَائلين عبر القنوات الفضائية ومنها الجزيرة بقولهم: هل سيتعظ صالح والأسد بسقوط القذافي إلى الأبد. وبمقتل القذافي دَوّتْ صفارة الإنذار بالعاصمتين السورية واليمنية وشعر النظامان بالخوف والوجل ليقينهم باقتراب الأجل لاسيما وان القذافي كان أكثر منهما صلابة وشراسةً وخطاباً وظهوراً في الإعلام.وأكثرهم سلاحا ونفطاً ومالاً ومع ذلك انتصر الشعب وسقط النظام وقد أثبتت الشعوب العربية للعالم أنها قادرة على إسقاط أنظمتها الاستبدادية التوريثية بالثورات السلمية المستمرة ولو راوغ الزعماء وتفننوا في الكذب ولو لبسوا للسياسة ألف لُبْسِ. ولما كانت الشعوب العربية قد عانت الويلات وصبرت على الآم ومرارة حكامها وظلمهم وطغيانهم لعقود من الزمن فها هي اليوم تجني ثمار صبرها بإسقاط رؤسائها وعروشهم المتهالكة. وهذا النصر من الله الذي وعد به عباده والله لا يخلف الميعاد. وقد قال الشاعر:
اللهُ عَودَني الجميلَ فكلُّ ما فاتحتهُ عُوجِلتُ بِالمفتَاحِ
الصبرُ درعِي والقناعةُ عُدتي والذكرُ حَسبي والدّعَاءُ سِلاحِي anomanlawyer1@gmail.com