أراد النظام كل شيء ولم يعمل شيئاً, دعا إلى الديمقراطية وفرخ أحزاباً لضربها، نادى بالانتخابات وملأ الصندوق بما لذ له وطاب، يريد التاريخ ويزور الحقيقة، فلا هو وقف مع نفسه ولا مع شعبه.. مشكلة النظام أنه خصم وحكم في آن، يعيش الشيء ونقيضه بعلم وبدون علم، أحيانا ينسى، وأخرى يتلاعب، وبين الأمرين نظام بلاهوية، يحدثك عن المؤسساتية ويمارس فيها الفوضى من أوسع أبوابها، وعن القانون من خلال التحكيم والطرح والتوجيه، مارس التخلف، فوقع في براثنه، وحين أراد الشعب الحرية دعا للحوار, الحوار لديه من ليس معي فهو ضدي، يشترط وجوده وينسف الآخرين، من حيث تأتيه لا تدركه، كأنه صمم من مراوغة. يبذل جهداً استثنائياً في الإيقاع بالخصم ولا يسخر هذا الإبداع من أجل وطن.
بين النظام والوطن خصومة كبيرة, الوطن يريد تنمية ونظام وقانون، والنظام يريد وجاهة سلطة واحتكار مسؤولية وتمكين فوضى تدير حياة، فلا هو أدرك حجم معاناة وطن، ولا الوطن استراح إلى قائد المسيرة كما يروج له إعلامه, كأننا في هذا التلاحق العجيب والتنافر أمام مشهد كارتوني بين (توم وجيري).
متى يؤمن النظام بالحرية وحق الشعب في التغيير؟ لا نعرف, غير أن الشعب يفقه جيداً مطالبه ويمد البصر إلى حيث يجب أن يكون المستقبل خالياً من أفراد ويبنى على مؤسسات, وإذاً نحن أمام مفارقات غرائبية لهذا النظام حين يتحدث الشباب مثلاً عن التغيير، ينبري النظام بالقول: نحن مع التغيير ومع مطالب الشباب، وحين يطالبون بالدولة بمفهومها العصري، يحدثنا عن شباب سرقوا منهم الثورة وبيّن الاعتراف بالتغيير ومطالبهم العادلة وبيّن سرقة المشترك لثورتهم، تسأل النظام ما كل هذا التناقض؟. فيرد عليك وهل كانت المسؤولية في كل هذه الـ(33)عاماً غير عزف نشاز على عدة أوتار، ومشكلة الوطن في كل هذا أنه صبر وقبل بالتعب، فيما النظام استراح بقوة إلى هذه اللعبة (الاستغماية)على المواطن.
وحدهم الشباب عرفوا دقة المراوغة وقالوا: (الشعب يريد إسقاط النظام ) في هذا السقوط حدث تداعٍ وتآكل في ذات الاستعلائي وحدث ما يشبه (الذحل) الصدأ في ذات الكرسي, لنجده يتكسر على غير علم بالنظام، وحين يجد شيئاً من المريب يهتز ويوشك أن يزيحه، نراه يلجأ إلى شجب الساحات والشباب وينظر إليهم معطلين لمصالح الناس وموقفين لحركة الحياة. الحياة هنا بالنسبة للنظام أن يظل متمتعاً بكامل السيطرة على الجماهير، وحين لا يقع على هذا ولا ذاك يعود للمشترك يطالبهم بالحوار, وتسأله هؤلاء من سرقوا طموحات الشباب، ومن قلت عنهم أرهاب وقاعدة وعملاء؟ تراه ينظر إليك ويطلق مثله الشعبي (لكل دقة برع) وتقول له:أنت تحاور لصوصاً يفترض أنهم أمام القضاء فكيف إذاً تخرق قانوناً وتعترف بمن أنكرت عليهم حق التظاهر في آن؟؟.. تسأل ولا تجد جواباً سوى أن النظام طينته عجيبة، مع الشباب ضد الثورة، مع الثورة ضد المشترك ومع المشترك ضد القانون، ومع القانون ضد الحياة. وتخلص أنك أمام نظام نزوعه تدميري, يحفل بالتناقض ولا يعير للانسجام معنى.. أعتمد ضرب هذا بهذا في تهليل وتكبير وتصفيق إعلامه, لذلك أدمن اللعب على أكثر من حبل، وأجاد كثيراً التوغل في الجراح ليبقى سيد الوطن بلا منازع، يحفل بالمماطلة والتسويف وكثير من التمني ومواعيد عرقوب، وبات معتقداً أنه قادر على المضي إلى أبعد مما نتصور في ترحيل الأزمات حتى يجد منفذاً خاصاً به، كأن فلسفته فقط تعطيل حياة من أجل البقاء سلطوياً، فلا هو أدرك حاجة الجماهير للحرية، ولا برهن على نجاح المراوغة, تطالبه بسلطة دولة وقانون، فيجيئك بالاحتجاج والتنديد والشجب.
ينتقل بنفسه من دولة إلى سلطة منظمة جماهيرية فاشلة، كأن مهام الأمن والسلم والاستقرار ومعالجة الأزمات، هي تخص المواطن وليس النظام، وكأن هذا النظام تقع عليه مسؤولية إلقاء المعاذير واللوم كله على المشترك، حدود مسؤولية سلطة النظام هي الإدانة, والمشترك لدى النظام هو التمرد والعصيان وما عداه قابل لِلطاعة والتغيير، تسأله ما معنى التغيير؟ فلا يعرف شيئاً سوى "نحن مع مطالب الشباب".. ماذا قدمت للشباب؟ يقول: المشترك سرق ثورتهم ـ مع وضد في وقت واحد!! ـ وإذاً كيف يمكنه تحمل مسؤولية بفلسفة الآخرين هم الجحيم؟! وهو ملاك مع المطالب ولكن لا يوفر شيئاًَ، مع التغيير وزيادة الفساد! مع إصلاح حال المواطن وارتفاع المحروقات!! مع الأمن وممارسة القنص لبريء يخرج لقوت يومه! مع الحرية ولكن حواراً فقط! مع الحلول وإنتاج الأزمات!..
فعلا غريب هذا النظام، يحدثك عن كهرباء نووية وهو يعد لظلام دامس وعن سكة حديد بجاهزية تقطيع أوصال ليس الوطن بل حارات!! وتأخذك الدهشة من كل هذا العبثي إلى أين يؤدي؟ تسأل نفسك ولا تعرف جواباً سوى نتفق لنختلف ونختلف لنتفق.
هذا شعار النظام يروج للشيء ويقدم النقيض فل انحن وقعنا على ما نريد ولا هو أعتق وطناً من هذا المرهق, عتق الوطن توقيعه على المبادرة الخليجية، وعتقه وضع آلية، الآلية لديه نسف للمتفق عليه،إبقاء النظام في سدة الحكم وممارسة ديمقراطية الثلاث ورقات.
تعبت الجماهير وما تعب تنقل من شرط لآخر، شروط النظام تبدأ بالبسيط ولا تنتهي حتى بالمعقد, بينه وبين الدولة بالمفهوم المعاصر أبحر وجبال، هو يريدها مغنماً والشعب يريدها مغرماً, وبين المغنم والمغرم ترسو سفن وتقلع صواري ميناء الجماهير عملية إنتاجية وإبداع وثورة شبابية, وهو قبض محاصيل وتنمية مداخيل, فيما الثورة تبقى تطلعاً يوشك أن يتموضع