"الذي خُلق ليزحف لا يمكنه أن يطير"، قول مأثور للشاعر الروسي جوركي وأجده حاضراً إزاء صنف من الناس، فكثير من هؤلاء كأنهم وجدوا ليزحفوا على بطونهم دونما حتى محاولة منهم للمشي على أرجلهم ولا نقول التفكير بعقولهم تجاه إمكانية الارتقاء بجناحي الفكر والإلهام والابتكار .
للأسف هناك نوع من البشر مهما اعتلى هامة ومكانة إلا أن منطقه وفكره وسلوكه يظل جاثماً في وهاد الذات الأنانية وفي مرابع العشيرة والقبيلة والمكان الضيق، إنهم أشبه بتلكم الضفدعة الناظرة لسماء الله الفسيحة، ولكن من جحرها في قعر بئر عميقة، فالضفدعة هنا لا ترى من سماء الدنيا الواسعة غير ما تراه من فضاء لا يتعدى مساحة قطر فوهة البئر .
هكذا حال الإنسان الذي لا يرى أكثر من أنفه أو قدمه، تقول له مساحة الكون عامرة اليوم بسبعة مليار نسمة ومع هذه الزحام الكثيف للبشر على هذه اليابسة مازال هناك متسع للعيش والتعايش والتحضر والتفكير والابتكار والتنقل والحياة المستقرة المتحررة من ربق الاستبداد والاستعباد والقروية والمناطقية؛ فتجده متجهماً غاضباً متقوقعاً محنطاً كأنما هو مومياء ناطقة من الزمن القديم .
قارات العالم الست تآلفت في قرية صغيرة ومن ثم قطنت جميعها في عمارة واحدة والآن يقال إنها في شقة فلا يفصل بين واحدة وأخرى سوى جدران أسموها في علم الجغرافيا السياسية حدوداً سيادية، وقد تصير هذه الشقة غرفة واحدة، فمن يدري كيف سيكون حال سكان المعمورة غداً وفي ظل التطور الهائل للاتصالات وتقنية المعلومات وأسواق المال والأعمال العابرة للحدود والفضاءات المفتوحتين؟.
الاقتصاد، الإرهاب، القرصنة، النفط، المحيطات، البيئة والطقس، الإعلام، الفقر، الأمية، البورصة، المجاعة، الملاريا والايدز والسل والسرطان، الزلازل والفيضانات والحروب والأزمات، المصالح والمنافع والعلاقات والتكتلات، الحريات والثورات والانتخابات وووغيرها من القضايا والمشكلات التي صارت قضايا ومشكلات يصعب عزلها وفصلها عن سياقها الزمني الحضاري .
الحاصل أن كثيراً منا لم يستوعب بعد ما حدث أو أنه لا يستطيع أبداً التعايش مع الحاضر المعاش كما ينبغي أن يكون هذا التعايش، وللتقريب أكثر فهؤلاء هم أولئك الذين لم يبرحوا رؤاهم الضيقة الجامدة المتصلبة عند تواريخ وأمجاد وشخوص ماضوية، أكل منها الدهر وشرب.
لا أدري ما جدوى الكلام عن جمهوريات الموز في زمن التكتلات والتحالفات الاقتصادية والعسكرية؟ ما أهمية خطب وشعارات وأفكار راديكالية متطرفة سادت في حقبة الخمسينات والسبعينات ثم بادت وتوارت في زمن لغته المصالح والمنافع والأسواق والعملة والقوة؟
الحكام العرب ومن حولهم الحرس العتيد من السياسيين والعسكريين وفقهاء الدين والقانون والفكر ومن على شاكلتهم من المثقفين والمحللين والمنافقين والمطبلين، فهؤلاء جميعاً يكادون بضاعة واحدة كاسدة، فلا فرق بين "اشتراكية وعدالة ووحدة البعث" في سوريا وبين "الله.. الوطن.. الثورة.. الوحدة" في اليمن، نعم كلهم يشبهون بعضهم في الحبو والزحف، كلهم يماثلون بعضهم في خوفهم وقلقهم من كل محاولة جريئة للتحليق والطيران في فضاء عولمي مفتوح إلا على اليائسين الخائفين العاجزين .
محمد علي محسن
الزاحفون على بطونهم 2378