زين العابدين وحده ودون سواه من رؤساء الجمهوريات العائلية كان قد فهم بأن المسألة لم تعد ثورة شباب عاطل أو إهانة شرطية لبائع متجول!، للأسف أدرك متأخراً وحين باتت الاحتجاجات الشعبية تعم أرجاء بلاده، بل وصارت أصوات الغاضبين تخرق سكينة قصر قرطاج المهيب، لذلك لم تجد نفعاً كل توسلاته: أنا فهمتكم الآن، فلا ترشح لرئاسة مقبلة، لا رئاسة مدى الحياة).
مبارك ومعمر وصالح وبشار وبوتفليقة والبشير... والقائمة طويلة من الحكام العرب المستبدين الذين لم يسمعوا أو يفهموا حقيقة أن كل من عليها فان، أو متغير ومتبدل، فبقاء الحال من المحال وهذه الشعوب الثائرة اليوم في أكثر من موطن ما كان لها أن تطفح فجأة كبركان غاضب أو قولوا كزلزال في قاع محيط؛ فلا يوجد حاكم عربي واحد توقع وتنبأ بحدوث هذا الطوفان البشري الذي لا يبدو أنه سيهمد على المدى القريب أو يزول دون أن يغير ملمح الخارطة الجيوسياسية.
مشكلة الحكام العرب أنهم فقدوا الإحساس بمعاناة شعوبهم، لذا هم اليوم كمن أفاق على تسونامي مفزع ومدمر، يقتحم نظامه ويهدد باقتلاعه أو على موج هذا الزلزال وقد غمرت مساحة الجوار أووصل مدها لأطراف البعض الآخر، فواقع الحال أن هذا الطوفان الشعبي لم يتوقف عند حدود أنظمة خمسة جمهورية بقدر ما هو سيعم كافة الدول العربية جمهورية وملكية، ففي كل الأحوال لن يبقي أو يذر نظام واحد إلا وبلغه وإن بطرق وأوقات مختلفة.
قيل لمبارك المريض والهرم أخرج أنت ونجليك وعصابتك من قصر عابدين؛ فأبى واستكبر وظل يخطب خطباً مستفزة حتى داهمه المشير طنطاوي وجنرالاته قبل أن تصله حشود المتظاهرين، القائد الأعجوبة معمر لم يفهم يوماً شعبه، فبعد عقود قاربت الأربعة يطل من مخبأة السفلي في بيت العزيزية قائلاً: من أنتم يا جرذان؟ أنا القائد، المجاهد، المناضل، الملهم، المجد، الشرف ليس لليبيا وحدها وإنما لكافة الشعوب العربية والأفريقية واللاتينية.
أنا الزعيم الأتي من الخيمة ومن البادية، سنزحف عليكم يا جرذان وسنطاردكم زنقة زنقـة وبيت بيت ودار دار، في نهاية المأساة دمرت ليبيا قرية قريـة ومدينة مدينة، قتل وجرح ونكل بملايين الليبيين، قُتل الزعيم بعد أن قبض عليه كجرذ في أنبوب مجاري، مات ملك ملوك أفريقيا ميتة مخجلة ومهينة لحد دفن جثمانه في صحراء مقفرة ومجهولة.
صالح وبشار لم يستوعبا الدرس جيداً، الاثنان لم يفهما بأن وقت رحيلهما أزف، كلاهما ظنا بأن العاصفة حتماً لن تأتي عليهما، قال الأول: اليمن ليست تونس، لا تمديد ولا توريث ولا تصفير للعداد ولا لحمى الثورات المخطط لها في تل أبيب والبيت الأبيض، فرد الثاني: سوريا ليست ليبيا، لا للمؤامرة الصهيونية، سنقاوم ولن نستسلم وسنواجه كل الخونة والمأجورين بكل صنوف القتل والبطش والتعذيب، سنحرق المنطقة برمتها إذا ما فكرت الجامعة الأميركية تكرار سيناريو ليبيا بداعي حماية المواطن السوري.
ملك البحرين لم يفهم أيضاً أن المشكلة أكبر من أن تختزل بطائفتين، أقلية سنية تحكم وأغلبية شيعية تعارض، الملك عبدالله نجح ربما بالسيطرة الآنية ومن خلال ضخ مليارات الريالات كمرتبات وحوافز اجتماعية، كما أنه استطاع امتصاص صدمة الزلزال ولو وقتياً وذلك بشغل الرأي العام بهيئة البيعة وبترشيح وانتخاب المرأة للبلديات والشورى في المستقبل.
الشيخ حمد سارع هو الآخر إلى الدعوة لانتخاب مجلس شورى عام 2013م ، فبرغم دور قطر السياسي والإعلامي والمادي في الثورات العربية، فكثير من مظاهر هذه الثورات مرجعها الأساس قناة "الجزيرة" التي قدر لها كسر حالة الرتابة والاحتكار الحكومي لوسائل الإعلام، ومع تفرد قطر وتغريدها خارج سرب الخطاب الموجه ومع كونها الدولة الخليجية الأكثر انفتاحاً وشفافية واستعداداً لمواجهة تحديات الحاضر والمستقبل، إلا أنها لم تسلم من هذه الرياح الواصلة إلى كل بقعة.
الأمير صباح كان أول من رفع الدخول المعيشية، ولكن المسألة هنا تعدت الرغيف إلى الشراكة في السلطة، فكان ولابد من أن تكون الكويت أكثر المتأثرين بالثورات العربية، فكما هو معروف أن الكويت عرفت السلطة النيابية في مطلع الستينات ومازالت تجربة مجلس الأمة تمثل أفضل أنموذجاً عربياً، على هذا الأساس كان ولابد من فهم ما حدث في الكويت على أنه امتداد للغليان العربي.
فبعد رفض وتعنت دام أشهر، رضخ الأمير مؤخراً المطالبة مجلس الأمة، فقبل استقالة الحكومة المتهمة بإفساد 16 نائباً وبإصدار مرسوماً تالياً قضى بحل مجلس الأمة، الإمارات والأردن والمغرب كل من هذه المملكات لم تقف ساكنة تجاه رياح التغيير، بل كل دولة اتخذت تدابير وإجراءات تتماشى وتتواءم مع طبيعة النظام القائم وظروفه ومشكلاته.
رئيس حكومة الجزائر عبدا لعزيز بلخادم لم يفهم شعبه الذي كان سباقاً في مضمار التغيير ودفع فاتورة مكلفة لذاك العنف، حاول بوتفليقة تفادي ما جرى في تونس وليبيا ومصر وإن بوصفه إصلاحية مهدئة لبعض الوقت، ولكن وفيما الشعب الجزائري ينتظر مغادرة الرجل العجوز وبتنفيذ ما وعد به يأتي بلخادم ويؤكد بأن مرشح جبهة التحرير سيكون بوتفليقة المنهك والمتعب، ليس هكذا فقط، بل اعتبر بقاء جبهة التحرير في السلطة قضية وطنية لا تقبل الشك أو الجدل.
ألم أقل لكم أن هؤلاء من الزمن القديم الذي لا يمكن له أبداً التماهي والتعايش مع أجيال جديدة، ولدت وترعرعت وكبرت خلال حقبة نصف قرن، لا أدري كم يستلزم من العمر كيما يرحل عنا هؤلاء الحكام؟، لا نعلم كم من الوقت نحتاج لكي يفهم ويدرك الحاكم العربي أن هذه الثورات هي في الأصل صراع بين أجيال مختلفة أو كما سماه وزير الدفاع الجزائري الأسبق/ خالد نزار بين جيل النار الذي ينتمي له ورفاقه في جبهة التحرير وبين جيل الرماد الذي خلق وترعرع في كنف الدولة الوطنية.