ما من دولة ناهضة أو جاثمة إلا وهنالك لحظة فاصلة في هذا التحول الايجابي أو السلبي، فما من إمبراطورية أو أمة أو شعب أو حضارة سادت وازدهرت ثم بادت وتحللت إلا وكانت انطلاقة البداية من نقطة محددة في تاريخ مسيرتها.. التحولات المهمة لا تأتي فجأة ومن الفراغ، كما أنها لا توجد لمجرد الرغبة بها وإنما إنجازها يستلزمه العزيمة والإرادة والنية المخلصة، فكل نهضة
مجتمعية واقتصادية لها منطلق فكري وسياسي ولها مقدمات وأعراض وتبعات وقبل ذا وذاك مجتمع مهيأ ومستجيب لحتمية الانتقال من حالة إلى أخرى.
ما نشاهده اليوم في الدول العربية تأخر كثيراً عن موعده المفترض قبل عشرين سنة ويزيد ؛ فهذه الثورات تخلفت زمناً عن ثورات أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية وشرق آسيا وحتى الثورات المخملية والبرتقالية والزنبقية الحاصلة منتصف العقد المنصرم في جورجيا وأوكرانيا وقرغيزيا. للأسف الشديد كان ولابد من الانتظار كل هذه المدة الزمنية لنكتشف في نهاية المطاف كم هي حاجتنا ملحة لهذا التحول الذي ننشده وبعد زهاء عقود ثلاثة، حين انتفض وثار المواطن المضطهد في أوروبا واسيا وأمريكا غاب المواطن العربي المستعبد من المشهد العولمي وحضر بدلاً عنه حاكمه المستبد.. انتقال زمام المبادرة من الشعوب إلى الحكام بلا شك أخر عملية التغيير
إلى هذه اللحظة، فبدلاً من أن يثور الشارع العربي ويسقط هذه الأنظمة العابثة الفاسدة صار العكس، إذ رأينا الطغاة الحاكمين هم من يطيح ويسقط بآمال وأحلام شعوبهم وهم من يعبث ويبدد بكل مقدرات شعوبهم.. الآن فقط نحاول تصويب ما فشلت فيه الثورات التحررية على المستعمرين
الخارجي والداخلي، فبعد نصف قرن من الزمن ؛ها نحن ثائرون ولكن على أنظمة عائلية مستحلة لكل شيء في هذه الأوطان إنساناً وثروة وتفكيراً وحياة وكرامة! اليوم فقط ندرك حقيقة البلاء الذي حل بهذه الأمة المتخلفة اقتصادياً وحضارياً ووجودياً ومجتمعياً.
الآن نجد أنفسنا في مواجهة واقع مرير وقاهر ومذل وفي زمن باتت فيه الشعوب الأخرى تكافح وتواجه تحديات مختلفة كلياً كالجريمة الالكترونية وحجم الإنتاج والدخل السنوي والطاقة النووية ومحاربة التلوث ومقدار حق الفرد من الحريات والرفاهية والتقاعد ووووإلخ من قضايا الحاضر.
تأخرنا كثيراً وتخلفنا ردحاً زمنياً طويلاً بلا شك كان ثمنه باهظاً ومكلفاً، ومع هذا أن تأتي متأخراً خير من أن لا تأتي أبداً، وهذه الثورات الشعبية ليست مؤامرة من الغرب وأمريكا ومن خلفهما بالطبع إسرائيل،فمثل هذا الوصف لطالما ردده الإعلام العربي البائس،لكننا في حقيقة الأمر نثور على طغاة مستبدين استحلوا كل شيء في هذه الأمة.
إننا كمن أفاق بغتة ليجد ذاته متخلفاً وفي هوة سحيقة وشاسعة عن سائر شعوب البسيطة، كذلك هو حالنا في هذه اللحظة الاستثنائية، فإما ثورات مجتمعية تؤسس لانطلاقة جديدة نحو غد عربي مشرق ومزدهر وإما البقاء رهن أنظمة ديكتاتورية لا جدوى منها أو أمل سوى المزيد من الخنوع والتبعية والقهر والتخلف.
لنتذكر جميعاً أنه ولولا الثورات الشعبية المناهضة لديكتاتورية الحزب الواحد وللنظام الشمولي المستبد في دول الكتلة الشرقية؛ لربما ظلت هذه الشعوب أسيرة الاضطهاد والقمع، لنتحدث عن اسبانيا بعد الجنرال فرانكو وعن البرتغال وكوريا الجنوبية والبرازيل وتركيا وإيران والصين وماليزيا واندنوسيا وغيرها من البلدان الحديثة الصعود صناعياً وتنموياً أو ديمقراطياً وحقوقياً، فما من نهضة صناعية وتقنية واقتصادية جاءت من العدم ! وما من ديمقراطية وحقوق مدنية تأتي بغتة ودون مقدمات أومن صناديق اقتراع! فكل ما وصلت إليه الدول من تطور وقوة في الوقت الحاضر مرجعه بلا شك لحظة فاصلة في التاريخ السياسي، قد تكون هذه اللحظة صناعة قائد سياسي استثنائي وقد لا تأتي سوى بثورات مكلفة بشرياً ومادياً، الحديث عن خسارة المواطن العربي للكثير من دمه وماله أظنه كلام ممل وسقيم إذا ما قورن بالثورات وجدواها وقيمتها على المدى القريب والبعيد، فالمهم ليس ما يخسره المواطن في مصر أو تونس أو سوريا أو اليمن وإنما المهم هو ما ستنجزه هذه الثورات لهؤلاء ولأوطانهم وللأجيال القادمة.