الصاحب للصاحب كالرقعة في الثوب إن لم تكن مثله شانته، هكذا روي عن الأوزاعي قوله في التآلف..
إن المودة والأخوة والزيارة سبب التآلف، والتآلف سبب القوة، والقوة سبب التقوى، والتقوى حصن منيع وركن شديد بها يمنع الضيم وتنال الرغائب وتنجع المقاصد، وقد منّ الله تعالى على قوم وذكرَّهم نعمته عليهم بأن جمع قلوبهم على الصفاء وردها بعد الفرقة.. إلى الألفة والإخاء، فقال تعالى: " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فآلف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخواناً" ووصف نعيم الجنة وما أعد فيها لأوليائه من الكرامة، إذ جعلهم إخواناً على سرر متقابلين، وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الإخاء وندب إليه، وآخى بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وقيل قديماً: المال غاد ورائح والسلطان ظل زائل والإخوان كنوز وافرة، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه الرجل بلا أخ كشمال بلا يمين، يقول الشاعر:
وما المرء إلا بإخوانه × كما يقبض الكف بالمعصم
ولا خير في الكف مقطوعة × ولا خير في الساعد الأجذم
وقال آخر:
إذا كنت في كل الأمور معاتباً × صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
وإن أنت لم تشرب مراراً على الأذى × ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
وقال المأمون للحسن بن سهل: نظرت في اللذات فوجدتها كلها مملولة سوى سبعة، قال: وما السبعة يا أمير المؤمنين؟ قال: خبز الحنطة، ولحم الغنم، والماء البارد، والثوب الناعم، والرائحة الطيبة، والفراش الواطئ، والنظر إلى الحسن من كل شيء، قال: فأين أنت يا أمير المؤمنين من محادثة الرجال؟ قال: صدقت، وهي أولاهن. وقال سليمان بن عبد الملك: أكلت الطيب ولبست اللين وركبت الفاره وافتضضت العذراء، فلم يبق من لذاتي إلا صديق أطرح معه مؤنة التحفظ. وكذلك قال معاوية رضي الله عنه: " نكحت النساء حتى ما أفرق بين امرأة وحائط، وأكلت الطعام حتى لا أجد ما استمرئه، وشربت الأشربة حتى رجعت إلى الماء، وركبت المطايا حتى اخترت نعلي، ولبست الثياب حتى اخترت البياض، فما بقي من اللذات ما تتوق إليه نفسي إلا محادثة أخ كريم.. وأنشدوا في معنى ذلك:
وما بقيت من اللذات إلا × محادثة الرجال ذوي العقول
وقد كنا نعدهم قليلاً × فقد صاروا أقل من القليل
وقيل: المودة طلاقة الوجه والتودد إلى الناس. وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: " إن المسلمين إذا التقيا، فضحك كل واحد منهما في وجه صاحبه ثم أخذ بيده تحاتت ذنوبهما كتحات ورق الشجر، وقيل: البشر يدل على السخاء كما يدل النور على الثمر. وقيل: من السنة إذا حدثت القوم أن لا تقبل على واحد منهم، ولكن اجعل لكل واحد منهم نصيباً. وقالوا: إذا أردت حسن المعاشرة فالق عدوك وصديقك بالطلاقة ووجه الرضا والبشاشة ولا تنظر في عطفيك ولا تكثر الالتفات ولا تقف على الجماعات، وإذا جلست فلا تتكبر على أحد وتحفظ من تشبيك أصابعك، ومن العبث بلحيتك، ومن اللعب بخاتمك، وتخليل أسنانك، وإدخال أصبعك في أنفك، وكثرة بصاقك، وكثرة التمطي والتثاؤب في وجوه الناس وفي الصلاة، وليكن مجلسك هادئاً وحديثك منظوماً مرتباً، واضع إلى كلام مجالسك واسكت عن المضاحك ولا تتصنع تصنع المرأة في التزين، ولا تلح في الحاجات ولا تشجع أحداً على الظلم ولا تهازل أمتك ولا عبدك، فيسقط وقارك عندهما، وإذا خاصمت فأنصف وتحفظ من جهلك وتجنب عجلتك وتفكر في حجتك، ولا تكثر الإشارة بيدك ولا الالتفات إلى من وراءك وهدئ غضبك وتكلم، وإذا قربك سلطان فكن منه على حذر، واحذر انقلابه عليك وكلمه بما يشتهي ولا يحملنك لطفه بك على أن تدخل بينه وبين أهله وحشمه، لان كنت لذلك مستحقاً عنده، وإياك وصديق العافية فإنه أعدى الأعداء ولا تجعل مالك أكرم من عرضك، ولا تجالس الملوك فإن فعلت، فالتزم ترك الغيبة ومجانبة الكذب وصيانة السر وقلة الحوائج وتهذيب الألفاظ والمذاكرة بأخلاق الملوك والحذر منهم.
وإن ظهرت المودة، ولا تتجشأ بحضرتهم ولا تخلل أسنانك بعد الأكل عندهم، ولا تجالس العامة فإن فعلت فآداب ذلك ترك الخوض في حديثهم وقلة الإصغاء إلى أراجيفهم والتغافل عما يجري من سوء ألفاظهم، وإياك أن تمازح لبيباً أو سفيهاً، فإن اللبيب يحقد عليك والسفيه يتجرأ عليك، ولأن المزاح يخرق الهيبة ويذهب بماء الوجه ويعقب الحقد ويذهب بحلاوة الإيمان والود ويشين فقه الفقيه ويجرئ السفيه ويميت القلب ويباعد عن الرب تعالى ويكسب الغفلة والذلة، ومن بلي في مجلس بمزاح أو لغط، فليذكر الله عند قيامه، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك غفر له ما كان في مجلسه ذلك.
إيمان سهيل
التآلف.. القوة والتقوى 2054