كثيراً ما ردد النظام (السلطة مغنم لا مغرم) ليقدم لنا ثقافته في هذا الجانب وفهمه الحقيقي لمعنى السلطة التي لم يستطع الخروج بها عن هذا المثل، والذي ظل متعلقاً به زمناً طويلاً، ظناً منه أنه قد أتى بما لم تستطعه الأوائل وأن السلطة لديه إما مغنم أو مغرم وليست دستور وقانون ونظام ومؤسسات دولة وتخطيط ومنهجية .. لذلك بقيت كل مفاصل الدولة تعيش التخبط وتحولت من مؤسسات نظام وقانون إلى فساد لم يسبق أن شهدت مثله اليمن في تاريخها القديم والحديث والمعاصر، وتكرست ثقافة المغنم قبل المغرم التي هي في الأساس عملية فيد أرهق البلاد والعباد لسنوات طوال، ما كان له أن يحدث لولا العقلية السلطوية التي أدارت وطناً بأسره بمفهوم متخلف هو مغرم ومغنم فقط دون النظر إلى الدولة العصرية أنها قوانين وأنظمة وتنمية وتحديث..
وإذاً لا عجب أن نجد رأس النظام من هذا المفهوم المتخلف لمعنى الدولة، أن يمارس صلاحيات كل مؤسسات الدولة بنفسه، وتحتل الوساطة والوجاهة المرتبة الأولى بلا منازع في تقليد المناصب والاشتغال فيها بذات الروح، وتوزيع أموال الدولة على شكل هبات حتى في بناء المشاريع.. وقد لاحظنا هذا كثيراً في زياراته لأي محافظة حيث نجده يقول:(وجهنا الحكومة ببناء جامعة، أو ببناء سد،أو تعبيد طريق، أو إقامة مستشفى ) وهكذا سارت عملية البناء بعشوائية وارتجالية تامة وبعقلية تقليدية تقوم بدور ليس من مهامها وينبغي أن يسند للجهات المختصة التي تضع لها خطة تسير عليها وفق موازنة محددة، وليس وفق (وجهنا وأمرنا)لتبقى الجهات المعنية تتابع توجيهات فخامته ليحدث الاختلال الكبير في العملية التنموية، وتصاب أجهزة الدولة المختصة، إما بالضمور والإهمال بسلبها صلاحياتها، أو بالارتباك وهي تحاول أن تترجم عشوائية (وجهنا الحكومة)إلى مجالات عمل تحدث اختلالات في عملية البناء برمتها، ومن هذا الاستحواذ أيضاً على كل شيء جرى التعامل مع المسؤولين باعتبارهم مأمورين لما ينطق به الزعيم، فليس لهم من عمل سوى متابعة حكمته ورؤيته للمستقبل.. وبهكذا أسلوب نشأت لغة وجهنا وأمرنا ليسقط على إثر ذلك دستوراً وقانوناً من الحساب ولا يعمل به إلا بما يتوافق ورغبة وأهواء السلطة ذاتها التي هي سيد الفصل، وتتحول العملية الديمقراطية برمتها إلى مجرد ديكور لا يقدم ولا يؤخر سوى ما تخسره البلاد من صرف موازنة مهولة على ما يسمى انتخابات، وتذهب مليارات أدراج الرياح، من أجل صندوق يرضي الزعيم الذي يمارس من أول ظهور لهذه النتائج لغة وجهنا وأمرنا.. ويغدو كل الوطن في ذات الدائرة، ينتظر فخامته ماذا يريد ليتحرك وينطلق في ترجمة الرغبة وليس ما يريده الإنسان والوطن.
وعبر هذا الفهم الضيق المنطلق من حكمة مأثورة قالها القائد (السلطة مغرم لامغنم) تتزاحم القوى النفعية والمتمصلحة وتتسلق الشخصيات الوصولية القابلة لأن تخضع ذاتها لرغبة النظام ،الذي هو كل شيء فيما الآخرون أدوات تنفيذية لما تراه حكمته وبصيرته وليسوا متخصصين ولا مخططين ولا أصحاب الشأن,بل هم يأتمرون بأمره ولا يعصونه ويتطلعون إلى ما يصل إليه من نتائج، وهي أشبه بنور يقذفه على الوطن وبركة من بركاته وسنا روحه المشرقة.. وفي هذا السياق اللاطبيعي من التعامل مع الآخرين والرؤية إليهم أنهم مجرد أدوات تتبع ما يجيئها من أوامر، وتشبع القائد الرمز بالذات المتضخمة-نشأ فهم مغلوط في التعامل مع ممثلي الدول الصديقة والشقيقة في بلادنا ،الذين أصيبوا بخيبة أمل كبيرة في كون الزعيم ينطلق في أحاديثه معهم من كونهم أحد أتباعه ،الذين عليهم الانصياع لتوجيهاته في كيفية إدارة شؤون سفاراتهم وعلاقاتهم مع الدولة بمفهوم( مغرم ومغنم)، وهو ما حذا بأحد السفراء من الدول الصديقة وقد تعمق في شخصية علي عبدالله صالح وأجاد تشخيصها ،إلى القول أن الرئيس ينطلق في بناء علاقاته بروح استعلائية لا من علاقات ندية وواعية, واندهش هذا الدبلوماسي الكبير الذي استطاع سبر أغوار القائد الرمز من البقاء في الفهم التقليدي والسطحي وهو يتعامل مع الآخرين ،حتى مع الذين هم سفراء بلدانهم وليسوا من رجالات حكمه ،وإنما دبلوماسيون يعرفون كيف يمارسون أعمالهم بروح المسؤولية الملقاة على عاتقهم والتي أراد النظام إخراجهم منها ليصغوا فقط إلى توجيهاته واعتبارهم كما قال هذا الدبلوماسي :أشبه بمشائخ قبل عند الزعيم المؤتمن, فهناك شيخ قبيلة الألمان، وهناك شيخ قبيلة فرنسا، وشيخ قبيلة بريطانيا ........إلخ.
ومن هذا المستوى يجري التخاطب ،وعلى هذا الأساس يقدم نفسه القائد لنجده أشبه بمن أصيب بعمى ألوان, فلم يعد يميز بين شيخ قبيلة يمنية، وسفير للصين أو الهند أو روسيا, فكلهم لديه كما الحكومة بمقاس واحد يأتمرون بأمره ولم ترسلهم بلدانهم لتمثيلها، وإنما للإصغاء إلى توجيهات فارس العرب البار علي عبد الله صالح، الذي لا يعرف من أمامه، سوى أنه في حضرته وعليه الخضوع لسطوة سلطانه بأن يصغي جيداً.. هذا هو خلاصة الانطباع الذي خرج به دبلوماسي كبير تعامل مع النظام لسنوات وأصيب بخيبة أمل كبيرة، أن يجد الرجل الأول في الدولة يعيش هذه الحالة من التفكير في بناء العلاقات، والرغبة في السيطرة على العالم من حوله، دونما تبصر وتعقل بأهمية أن تكون للدولة مؤسسات ودستوراً وقانوناً وأداءً ينطلق من مفهوم معاصر لبناء الدولة داخلياً وفي علاقاتها مع الخارج، بندية لا تنزلق معها إلى مجالات الاستبداد، وهي الثقافة التي تملكت روح النظام ولم يستطع الخروج منها إلى الفضاء الرحب وإلى الديمقراطية الصحيحة التي هي احترام وامتثال للنظام والقانون وليس لمعايير الجاه والسلطان التي غزت كل مظاهر الحياة، فصار حتى السفراء في تعاملهم مع النظام يُنظر إليهم أنهم أشبه بمشائخ عليهم الإصغاء لتوجيهاته وأوامره.
ووفق ثقافة مغرم ومغنم سادت الفوضى طولاً وعرضاً في بلد الحكمة الذي كان عليه أن يتخلص من التبعية والسيطرة، إلى حيث الإنسان في علاقاته بالآخرين- احترام متبادل والقانون سيد الجميع.. ولذلك برز من ذات التخلف رغبة التقدم ،ومن القمع الحرية، ومن روح الاستبداد فضاء الساحات لشباب الثورة السلمية، وفي ظرف دقيق لم يعد يقبل التسليم بمنطق الملهم الفذ الضرورة، وإنما بما هو خلاق من ذات المجتمع المتفتح المبني على قيم الحرية والعدالة.
محمد اللوزي
السفراء لديه مشائخ قُبَل 2305