القوى التقليدية أياً كان موقعها وتأثيرها؛ فإنها في المحصلة تبقى قوة منغمسة في تواريخ وأفعال ماضوية أكثر من أن تكون منجذبة للحاضر والمستقبل، على هذا الأساس أعتقد أن أزمات اليمن ومشكلاته السياسية لن ولن تفلح معها سوى القوى الحديثة المنتمية لهذه الحقبة التاريخية الاستثنائية، فدون وجود طليعة سياسية فاعلة ومؤثرة في القرار السياسي ودون تمثيل حقيقي لأجيال ما بعد الثورتين والتوحد، فلا أظن هذه البلاد ستتعافى من سقمها المزمن الناتج عن شيخوخة الأداة السياسية .
الثورة في اليمن للأسف أنها لم تحسم ثورياً، ولأنها كذلك، فعلى قوى الحداثة التي تمثل هنا روح الثورة الشعبية ألا تيأس وتنكسر إزاء مآل هذه الثورة، فليكن الأمر هكذا ورهن القوى التقليدية التي مازالت أسيرة لكثير من معتقداتها ووسائلها البالية، البعض يسأل وبطريقة مستفزة: أين هي الثورة في اليمن؟.. ومع أن الإجابة بلا شك أمرّ من السؤال، إلا أن أياً من الاثنين سيكون بمقدوره نفي حقيقة هذه الثورة من الوجود .
عندما أتحدث هنا عن قوى صارت من الزمن الماضي؛ فلا يعني فقط القوة القبلية المستأثرة اليوم بمفاصل الدولة السياسية والعسكرية والاقتصادية، ولكن المسألة تشمل أيضاً القوى الحزبية والدينية والرأسمالية والعسكرية والوظيفية والمجتمعية التي لم ترتق بعد لمصاف الثورة الشعبية المطالبة اليوم ببناء الدولة المدنية الحديثة .
ليس وحدها الثورة من يعاني من إرث هذه القوى المهيمنة على مجمل القوة والسلطة والمال وحتى وسيلة التعبير، بل الجنوب وقضيته وصعدة وحروبها والقاعدة وإرهابها والديمقراطية ووسائلها ووووإلخ من المفاهيم الحداثية التي عادة ما تتصادم مع تركة ثقيلة من القيادات والرؤى والأفعال والأدوات التقليدية التي للأسف نجدها حاضرة وبقوة عند كل حدث من شأنه الانتقال إلى مرحلة سياسية منحازة للتغيير الحقيقي المؤسس للدولة المدنية الحديثة .
إذا سأل أحدكم عن جدوى الثورة في ظل هيمنة القوى التقليدية؟، الواقع أننا إزاء حالة تنازع وشد ما بين قديم يراد إعادة إنتاجه وبلورته وإن كان بشكل مستوحى من حاجة هذه القوى القديمة للتصالح مع الحاضر، وبين جديد يحاول إثبات وجوده كضرورة حتمية خُلقت من روح العصر وتحدياته ومشكلاته التي لم تجد معها سوى الحلول الجريئة المتسقة والمتناغمة مع طبيعة هذه التحديات والمشكلات .
ما يؤخذ على ثورة اليمنيين هو أنها صارت أسيرة القوى القبلية والعسكرية المتحاربة والمسيطرة أيضاً، البعض تسمعه ثائراً: إننا أشبه ببيادق لعبة الشطرنج، ففي النهاية سينتصر الملك، نعم قد يبدو الأمر هكذا وبين قوتين تقليديتين لا بين قوة تمثل الحاضر وقوة تمثل الماضي .
ومع هذه المشكلة المزمنة التي أصابت الفكر والأداة السياسية الحداثية وأعاقتهما من إنجاز الدولة المدنية ما بعد قيام ثورة سبتمبر 62م أو عقب التوحد عام 90م.. أعتقد أن هذه الثورة لا يمكن الحكم عليها الآن، فكون القوى التقليدية فاعلة ومؤثرة فيها، فهذا لا يعني تسليماً بفشل الثورة أسوة بوأد الوحدة عام 94م أو هزيمة الجمهورية إثر اتفاق القبائل المتحاربة عقب حرب ثمان سنوات .
فالثورة اليوم ربما لم تستطع الحسم الثوري وفق الطريقة التي يريدها معظم اليمنيين وذلك لعدة اعتبارات وعوامل، منها غياب الدولة المؤسسية واحتكار القوة والمال والإعلام وتوظيف الدين والأحزاب وحتى الخير والإغاثة، فجميع هذه الأشياء مازالت محتكرة بيد القوى القديمة .
وبرغم هذا التفوق المادي والمعنوي هناك عامل مهم وحاسم ربما غفله الكثير من المحبطين، فهذه الثورة إذا لم تحقق أهدافها بعد، لكنها ستبقى قوية ولن تسلم الراية للقوى القبلية والعسكرية والطائفية والجهوية، فما يدعونا للتفاؤل بأن هذه الثورة منتصرة اليوم أو في الغد، هو أنها ثورة شباب أولاً وثورة شعب لا نخب ثانياً، وثالثاً أنها مازالت في الساحات والى الساحات متى شاءت ورأت لذلك سبيلاً.
محمد علي محسن
الثورة وصراع الأضداد 2194