رحل أخيراً وإلى سلطنة عمان، فبعد طول عناد ومكابرة؛ هاهو في نهاية المطاف يرضخ للأمر الواقع والحتمي، فإرادة الشعوب لا تقهرها قوة سلطان أو جبروته وبطشه.. المعجزات أياً كانت هي صنيعة البشر المتحدين، كذلك هي الإرادة القوية التي لا تعرف مستحيلاً إلا وحققته وأنجزته.
رحيل ما كان له أن يتحقق لولا هذه الثورة الشعبية الصامدة في الساحات منذ سنة كاملة، رحيل وبعيد مقاومة وتضحية بكل غال ونفيس، رحيل برائحة الدم والعلقم والمرارة والتعب، لم يشأ صالح مغادرة الرئاسة أسوة بأسلافه الميامين الطغاة "زين العابدين ومبارك ومعمر" .
فكل الثلاثة الرؤساء كانوا قد رحلوا إما إلى المنفى أو السجن أو القبر وفي ظرفية زمنية لا تتعدى الأسابيع والأشهر، الرئيس صالح أبى واستكبر كالشيطان الرجيم حين غوى واغتر بكونه مختلفاً؛ إذ كان قد عاند وتجبر إلاّ أن يظل في الحكم ولن يركع لثورة شعبه مهما كلفه ذلك من ثمن وتضحية .
عام بالتمام والكمال والرئيس جلّ جهده وتفكيره البقاء لا الرحيل، عندما تأكد له بأن لا خيار غير الخيارات الثلاثة المألوفة للحكام العرب، فإما المنفى أو السجن أو القبر، اعتقد أنه أذكى من الرؤساء الثلاثة الذين سبقوه، خرج للناس وقال: لن أرحل من السلطة؛ بل أنتم من ينبغي أن يرحل من الساحات والميادين، لن أذهب إلى حبل المشنقة فما من حاكم سيسلم رقبته للجماهير الثائرة، لن أهرب إلى الرياض كالرئيس الأبله بن علي، ولن أنتظر حتى يتم خلعي ومن ثم حبسي ومحاكمتي كالرئيس مبارك، كما أنني أخشى مآل المجنون القذافي وأولاده وثروته، فلن أغادر سوى بطريقة جديدة ومبتكرة .
نعم رحل من البلاد وبأسلوب دراماتيكي غير معهود أو مرغوب فيه، لقد سنح له أن يعبث ويقتل وينهب، بل وأكثر من ذلك بأن يلقي خطبة وداع متلفزة يعتذر فيها ويلوح بعودة قريبة، قيل بأن الدهر يومان؛ فيوم لك ويوم عليك، لكن الرئيس من الصنف الأناني الذي لا يكتفي بزمنه، مازال يظن أن لديه قدرة خارقة تمكنه من قيادة المعارضة في قابل الأيام .
يا إلهي.. الرئيس الذي لم أعثر في سنواته الـ33 على منجز وطني واحد له جدير بالفخر والاحترام، يحدثنا عن منجزاته التاريخية العملاقة، الوحدة السياسية والمجتمعية صارت بحاجة لمعجزة تاريخية لإنقاذها من حالتها المزرية والمتشظية، النفط والغاز اللذان صارا نقمة على اليمنيين بدلاً من أن يكونا نعمة، اليمن بشعبه وتنميته واستقراره جلّه في غرفة الإنعاش نتيجة تلكم الأمراض الخطرة المزمنة والناتجة عن سوء إدارة وتصريف موارد وطاقات البلد البشرية والطبيعية .
واقع الحال يبعث على الرثاء والشفقة والخجل، بل قولوا البكاء - وما بكاء رئيس الحكومة محمد باسندوه في البرلمان ببعيد- إذ أن ما فعله صالح ونظامه باليمنيين ووطنهم يستلزمها أكثر من معجزة كي يتنفس الاثنان طبيعياً ويعتمدا على رئتيهما، بدلاً من التنفس الصناعي، وبرغم أن حالة البلد وأهله في حالة موت سريري ومع هذه الحالة الشديدة البؤس والحرج بقي الرئيس متشبثاً في كرسيه، دونما رغبة بتركه للقادرين على انتشاله وإنقاذه من الموت .
فبعد كل ما حل من خراب وقتل ونهب وفساد وكذب وعناء وغيرها من الأشياء التي دفعت باليمنيين إلى الثورة لإسقاط النظام؛ مازال الرئيس يعتقد خطأً بأنه يختلف كلياً عن بن علي ومبارك ومعمر وحتى بشار الذي قد يضاهيه من ناحية القتل المفرط أو المدة الزمنية .
نعم كان محظوظاً بكونه لم يهرب بغتة أسوة بزين العابدين الذي لم يتح له الوقت أخذ نقوده ومكنوزاته الثمينة، أو يحاكم كحسني مبارك المتهم اليوم بجرائم قتل وفساد، أو كمعمر القذافي الذي قتل شر قتلة، ونعم تم منحه حصانة كاملة وملاذاً يداري به سوءة أفعاله الشنيعة وجرائمه المنكرة، ومع ذا وذاك كان رحيله أمراً مقضياً وكانت النهاية مخجلة ومهينة مثل خاتمة أي حاكم فار من شعبه، فكما يقول ناظم حكمت: "قد تستطيع خداع بعض الناس لبعض الوقت ولكنك لا تستطيع خداع كل الناس وكل الوقت ."
محمد علي محسن
وكان الرحيل أمراً مقضياً 2399