من فضائل ثورة الشباب على اليمنيين أنها خلقت وضعية ثورية مختلفة عن تلكم الأوضاع الثورية التي سادت إبان التجزئة أو بُعيد التوحد، فهذه الثورة لم تسقط مسألة التوريث للجمهورية أو التأبيد للحكم فحسب، وإنما فتحت أفاقاً رحبة لبناء يمن آخر، كما أنها مهدت مساحة خصبة صالحة لبذر فسيلة الدولة المدنية الديمقراطية .
فإذا ما تأملنا الحاضر الجديد الناشئ، سنجده نتاج حالة مزمنة من الاحتكار والهيمنة والإقصاء والعبث وغياب المواطنة المتساوية وووإلخ من المشكلات المجتمعية التي لطالما ظلت حبيسة الصدر والذهن إلى أن جاءت اللحظة المناسبة، وهاهي الفرصة قد سنحت لها اليوم، فكان تحررها وانعتاقها من خلال هذه الثورة التي أحسبها تؤسس لمرحلة تاريخية مختلفة نظرياً وعملياً عن سابقها .
أعجب كثيراً حين يقول البعض إن لا فائدة ترجى من تغيير رأس النظام!، فهؤلاء يبنون اعتقادهم على أساس ماضوي مثقل بالتجربة الطويلة من الفشل والإخفاق والنكوص والخذلان، لا من وحي الحاضر الثوري الحامل في أحشائه وذهنه لكثير من الآمال والطموحات والنجاح والمقاومة والرفض من تكرار إعادة إنتاج التواريخ البليدة أو أحداثها المشؤومة القاسمة والمهلكة لروح الدولة اليمنية الحديثة المستوعبة للجميع دونما تمييز أو فروق أو اضطهاد .
وإذا كان واقع الحال يشي بثمة جاهزية واستعداد لقبول فكرة الدولة المدنية، خاصة في المحافظات الشمالية التي ظلت عصية رافضة لمسألة انصياع القبيلة والطائفة للدولة، بما تعني من ولاء واندماج ومواطنة واحدة متساوية أمام القانون والنظام وبما تعني أيضاً من حقوق وتكليفات وهوية أكبر وأوسع بكثير من الهويات الضيقة كالقبيلة والجهة والمذهب وغيرها .
ما أذكره الآن هو أن دولة الوحدة كانت قد فشلت بتعميم الدولة المدنية السائدة في محافظات الجنوب منذ عهد الانكليز، هذا الفشل لا علاقة له بالمواطن العادي، بل ذو صلة بطبيعة القوى القبلية والعائلية المهيمنة وقتها على الدولة الهشة والضعيفة، ففي ذاك الأثناء كان الواقع المجتمعي مازال غير مهيأ ومعد مثلما هو حاله اليوم .
ربما الاستثناء الوحيد هو محافظة تعز التي مثلت حينها حالة ايجابية لعملية الاندماج والتعايش مع المفاهيم والمبادئ والأفكار المدنية التي وجدت لها في تعز حيزاً من الوجود والتأثير وعلى عكس معظم المحافظات الأخرى –بما فيها مأرب وصعدة اللتين لكل منهما فهمها وتعاملها- التي بقت الدعوة فيها للدولة المدنية أشبه بمؤذن مالطا في الزمن السالف، لا الوقت الراهن الذي بات في الجزيرة أذان وعُبَّاد .
رحل الرئيس فيما سيبقى إرثه ثقيلاً ومكلفاً للغاية، السؤال الماثل اليوم: ماذا بعد رحيل صالح؟ وما الوصفة السحرية التي تملكها حكومة باسندوه؟ فقضايا كبرى كالاقتصاد والتنمية والجنوب وصعده والبطالة والفساد، بل قولوا الدولة الوطنية ذاتها التي لم تبسط بعد سيادتها ووجودها على عاصمة البلاد صنعاء .
أسئلة كثيرة تطرح نفسها الآن وفي وقت عصيب كهذا الذي يستلزمه معجزات لا معجزة واحدة، فالواقع أن البلد يعيش لحظة تاريخية حرجة غير مسبوقة في تاريخه الحديث، أنظر جنوباً فلا أجد فيه سوى آهات وانين اليائسين والمحبطين وغير أناس ساخطين، رافضين للتهميش والإقصاء والنهب والانتخاب وغير حنين وإصرار عجيب لاستعادة الدولة الجنوبية .
أتأمل شمالاً؛ فلا أرى في صعدة إلا الاحتراب والخراب والهلاك، لا شيء في شمال الشمال غير البؤس وأفكار ممزقة لـ"اللحمة" الوطنية، لا شيء سوى الفراغ والضيم والجهل، فمتى اجتمعت ثلاثتها طغت العصبية والجهوية والطائفية؟ ومتى حلت العصبية فعلى الدولة والمواطنة والتعايش الرحيل؟
يقابل هذه التركة بالطبع أمال وأفكار ورواسب قديمة اختمرت الذهنية ولحد التصلب الفج الذي لا جدوى من إذابته وجريانه من دون معرفة وإدراك لطبيعة تكوينه وتشكله، فالحاصل هو أن اليمنيين لديهم إرثهم الطويل الذي يصعب فصله عن سياق الذاكرة الجمعية الحاضرة الآن بقوة، يكفي الإشارة هنا إلى ما حدث لثورتين أو التوحد من إخفاق وفشل وهذا التعثر أدى بالضرورة إلى فقدان الثقة الجمعية بإمكانية التغيير لهذه المعادلة الخاطئة والمستبدة بحياة اليمنيين مذ الأزل.
فلأول مرة تتاح لهم ممارسة الفعل الثوري، كما ينبغي أن يكون، نعم أمام هذه الثورة فرصة ثمينة ونادرة وعليها أن تكون عند مستوى اللحظة التاريخية وتحدياتها، فهذه الثورة قدرها أنها إزاء إرث مثقل بكثير من التعقيدات والمشكلات الناجمة عن الاستئثار والهيمنة القبلية والمناطقية والطائفية، وبالمقابل هذه الثورة محظوظة بكونها تملك من الخيارات والوسائل والظروف ما يجعلها قادرة على تحقيق وإنجاز الدولة اليمنية الحديثة وهي المهمة التي فشلت ثورة سبتمبر ومن ثم دولة الجنوب في تحقيقها على كامل جغرافيا اليمن .
محمد علي محسن
الثورة.. إرث ثقيل وطموح أكبر 2356