سئمنا..مللنا.. كفرنا بكان وأخواتها،لماذا علينا استجرار الماضي وتواريخه البليدة بدلاً من هضم الحاضر المعاش ؟ في أحايين كُثر ينتابني الفزع إزاء فداحة الكارثة المهولة الناتجة عن فراغ مستبد واحتكار ضيق للسلطة والثروة والقوة.
أتأمل دوماً في وجوه الغاضبين الساخطين ؛ فلا أجد له وصفة غير وقت مهدر عبثاً ودون طائل، وسوى هيمنة واستئثار فئوي لا يستقيم مطلقاً مع غالبية مُضطَهَدة بقوتها اليومي وبوقتها وحريتها وكرامتها وحياتها.
لا أعلم ما جدوى الحديث عن دايل كار ينجي ومؤلفاته المكتشفة لمواهب وطاقات كامنة في الإنسان ؟ لكنني وبرغم هذا القنوط أشعر برغبة جامحة بنصح مشايخ الثورة والحراك والأحزاب والحكومة بقراءة على أقل تقدير كتاب كار ينجي الشهير (دع القلق وابدأ حياتك)!.
شخصياً أقلعت عن القلق مذ تلك اللحظات التي تمكن فيها مخترع مفهوم التنمية البشرية من إقناعي بإمكانية نجاح الإنسان مهما كانت المشكلات والمثبطات ودون أرق أو قلق، نعم لماذا نندم علي شيء قد ضاع منا أو فات ؟ مثل هذا الأسى لن يعيد الطحين حباً بل يتلف عضلات المعدة وينهك خلايا الذهن.
لا أعني هنا الحقوق التي تم نهبها ومصادرتها من عتاولة الفيد والنهب، فما ضاع حق ورائه مطالب، إنما أعني بالضبط ما ضاع منا من الوقت والزمن والأفكار والرجال والفرص وغيرها من الأشياء التي لا ينفع معها القلق أو الندم.
هؤلاء الفتيان هم في مقتبل الحياة ؛ فما وقع الكتابة لهم عن عدن المزدهرة في زمن الانكليز ؟ تصوروا مثلاً أنني ألقي على مسامع هؤلاء كل يوم : كان زمان يا أولادي كل شيء بسعر التراب، فعلبة الحليب الدانو بخمسة وعشرين درهماً، والتطبيب والتعليم مجاناً، السمك واللحم والغذاء لا أحد منا يسأل كم سعرها ؟ الدينار الواحد يساوي ثلاثة دولار دونما تبدل أو تحول..
كان أبوكم يقضي فراغه إما في قراءة روايات وقصص تولستوي وتشيخوف وهمنجواي وفيكتور هوجو ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وغيرهم أو في مشاهدة المباريات والدراما الواقعية أو في زيارة الأهل والأصحاب والاستمتاع معهم بوقت الفراغ الذي كان محدوداً.
يعود الفتيان من رحلة أبيهم فيجدون أنفسهم في مواجهة ما يبثه وينشره الإعلام وفي قلب معترك حياتي لا صلة له البتة بماض، فعدن التي ينتمي لها الأب غير عدن هذه البائسة والمخيفة في وسائل والإعلام، لا مقارنة تذكر بين الأمس واليوم، بين أُم لفيت حقبة التعليم الإجباري فنالت قدراً من التعليم وبين ابنتها الأُمية التي لم تستطع الالتحاق بالمدرسة نظراً لاختلاف الزمان وأهله لا المكان.
في واقع كهذا ينبغي ألا نفرط في التفاؤل أو التشاؤم، فكان زمان وصار الآن هما سبب هذه الحالة الفوضوية المنتقمة من المستقبل الذي لم يلد بعد، في خضم الشد والجذب بين ماضٍ شطري لا يبرح ذاكرة الكبار وحاضر وحدوي لم يفلح في ردم الهوة الحاصلة ما بين الماضي والحاضر ؛ كان ولابد من ولادة كبش فداء يعفر دمه ويزهق على قارعة الفجوة المتسعة مساحتها.
الشباب هم ضحية هذا التنافر والافتراق، الواقع المعاش بات هجيناً من الحنين للأيام السالفات التي لم ولن تعود ثانية مهما حولنا قسر الحاضر، ومن الجزع من الغد القادم الذي نخشى العبور إليه ولو بلي عنق الاثنين وذبحهما على هدى الماضي والحنين إليه أو الحاضر ومخاوف مبارحته إلى زمن آخر .
محمد علي محسن
سئمنا كان وأخواتها 2292