ما حصل في البلاد العربية من ثورات الربيع العربي والتي هبت من تونس مروراً بمصر وليبيا وزمجرت أعاصيرها حينما اقتربت من اليمن لتقتلع أشجار الفساد وتجتث عروش الظلم والطغيان بقدر ما كانت ثورة شعبية ركزت على تغير النظام الفاسد والمطالبة بحقوق الشعب المنهوبة بقدر ما كانت ثورة فكرية عملت على تغيير الأفكار والمعتقدات التي ترسخت في عقول الناس ومارسها المجتمع بسبب عدة عوامل كان للنظام اليد الطولى فيها .
فقد غيرت في فكر الناس ومعتقدهم حيث أصبح من الممكن أن تقول للفاسد ارحل دون خوف أو قلق لأن الخوف الذي كان يعشعش في القلوب قد رحل بمجرد رفع الشعار ارحل فمرحلة الخوف قبل أن يرحل النظام .
في حين أنه قبل الثورة كان المواطن يرى الفساد ويعلم من يمارسه ولكنه لا يجرؤ على محاربته إما بسبب الخوف أو بسبب اعتقادهم أن محاولاتهم لن تجدي نفعاً وستبوء بالفشل استناداً للمثل القائل " إذا غريمك القاضي من تشارع " أما الآن فقد أصبح معلوماً لدى الجميع أنه بالإمكان إزالة الفساد إذا تضافر الجميع لإزالته كما كان الناس العاديين ينظرون إلى النضال السلمي أنه نوع من العشاء وتضييع الوقت وأن الحقوق لا تأخذ إلا بالقوة .. القوة التي يفهمونها .. القوة التي تقتل كل شيء جميل في حياتنا ، ولكن ثورتنا السلمية التي أذهلت العالم كانت هي السبيل الأكثر فاعلية وبالفعل إن التضحيات التي بذلناها هي من انتزعت حقوقنا المنهوبة وأرغمت صالح على التخلي عن كرس الرئاسة الذي كان يعتبره من ممتلكاته الخاصة حتى أنه نسى أنه حق الشعب وأراد أن يورثه لأبنائه مع بقية مسروقاته .
ليست المرأة ببعيد من هذه الثورة الفكرية في مجتمعنا، فقد كان للثورة أثر كبير في تغيير الفكر السائد حول المرأة ودورها في المجتمع والذي كان معروفاً عن نخبة قليلة من الأكاديميين ، والسياسيين وإن أعطي لها دور فهو محصور في زاوية ضيقة ، وأماكن محدودة .
ولكن الدور الذي قدمته المرأة في الثورة ومشاركتها الفاعلة في كافة الأنشطة انعكس على المجتمع بشكل يجعل الناس يدركون أن المرأة لا تقل وطنية عن أخيه الرجل وأنه لا بد من إشراكها وبشكل أوسع في الحياة العامة والعمل السياسي والحقوقي على الوجه الأخص وخاصة بعد التجربة الرائدة للمرأة اليمنية المتمثلة في المناضلة توكل كرمان .
بل إن هذه الثورة أثرت على المجتمع بشكل عام، فدخلت إلى كل حارة ، ومنزل فقد استحوذت على الجميع حتى صارت أهم ما يناقش حتى على مستوى طاولة الأسرة بعد أن كان الناس بعيدين كل البعد عن السياسة واليوم يمارسها الجميع حتى الأطفال الذين كان همهم لا يتجاوز اللعب واللهو ،وبالطبع كانت الثورة قد غيرت في فكر الناس العاديين في المجتمع فقد أثرت ،وبشكل أقوى على النخبة في المجتمع ، وبالأخص السياسية منهم، حيث أصبح قادة الأحزاب والتكتلات السياسية يدركون أهمية القبول بالآخر ، والعمل معه في إطار المصلحة العامة للوطن ، وأن سياسة الإقصاء ستفضي به في الأخير إلى برميل القمامة .
لذلك كان لا بد لها من إعادة صياغة برامجها وترتيب أوراقها لتتناسب مع متطلبات المرحلة القادمة .
بل إن الثورة كان لها تأثير مباشر حتى داخل الحزب الواحد وعلى مستوى الأعضاء الذين يعملون على إصلاح أي اعوجاج من خلال النصح ، وتقديم المقترحات لقيادتها ليبدأ التغيير الحقيقي داخل الأحزاب لاستبعاد أي سياسات تؤصل الدكتاتورية والعمل على توسيع دائرة الديمقراطية حتى داخل الأحزاب وإعطاء الجميع فرصة للتعبير عن آرائهم ، ومقترحاتهم لتضمن هذه الأحزاب استمراريتها وتطورها وذلك من خلال الاستفادة مما آلت إليه الأنظمة الفاسدة التي عملت الشعوب على إسقاطها وبهذا سيقدم كل حزب أفضل ما عنده ليعمل الجميع في مناخ سياسي مناسب لبناء الدولة الحديثة .
كانت هذه الثورة دورة تدريبية حقيقية للمجتمع على الحوار وفن الإقناع والقدرة على التحليل وغيرها، فما تمخض عن الثورة من آراء بالرغم من اختلافها وتوجهاتها فهذه الظاهرة التي أقلقت البعض خوفاً على المجتمع من الفرقة ، والعنف إلا أنها من وجهة نظري ظاهرة صحية، لأنها أخرجت الناس من صمتهم وتخدرهم وحركت العقول المتحجرة التي قيدتها عوامل الإحباط حيناً واللامبالاة أحياناً أخرى .
ولا بد لهذه العقول أن تهتدي إلى ضرورة عدم التعصب ، ومحاولة الإقناع بالأسلوب الأمثل ، ولا بد لأواصر الحب والإخاء ، والتكامل ، والتراحم أن تنتصر في الأخير فنحن أهل اليمن أهل الحكمة اليمانية التي راهنت عليها الجميع طيلة فترة الثورة التي امتدت لشهور كما أتصور أن آثار الثورة على المعتقدات ،والفكر ستشهد انتعاشاً أكبر خلال السنوات القادمة سينعكس على المجتمع بشكل عام ، ليلتحق مجتمعنا اليمني بتلك المجتمعات المتقدمة مع محافظته على أصالته ، وسيستعيد اليمنيون حضارتهم ، وتاريخهم العريق الذي ضيعه صالح خلال فترة حكمه البائد .
القبيلة اليمنية: انحياز للثورة وإنجاز للانتخابات
في فبراير من العام الماضي انحازت القبيلة اليمنية بمشائخها وأعيانها وعموم أفرادها للثورة، وفي فبراير من هذا العام تنجز القبيلة اليمنية الانتخابات الرئاسية المبكرة بالمشاركة الكاملة في الثلاثاء 21 فبراير الجاري إن شاء الله تعالى.
إن القبيلة هي ركبة الدولة وسندها: والسلطة تزول وتبقى القبيلة فهي حقيقة اجتماعية،ولسنا نقصد هنا قبيلة معينة، بل كل القبائل اليمنية هي في نفس السياق.
إن القبيلة اليمنية بصورة عامة لا تقبل الضيم، ويتداعى أصحابها لإزالة العار الذي يحاول أي أحد إلصاقه بهم، والقتل أسلوب غير مجدي في الصراع لأن العرب لا تموت إلا متوافية.. إن الناس قبل التكنولوجيا كانوا يقولون فلان قتل في يوم أبيض، لكنهم اليوم يصورون القاتل ويعرفونه فلا يستطيع الفكاك من مصيره مهما فعل.
إن القبيلة اليمنية أعلنت ولاءها ودعمها السلمي للثورة، وقال مشايخها: إنهم لا مطامع لهم في الثورة، وإن الثورة هي ثورة الشباب ولن يسرقها منهم أحد.
ولكن القبيلة اليمنية حين رأت هول المأساة في تعز؛ حيث تجردت قوات الحرس الجمهوري من إنسانيتها، وباعت نصيبها من الرحمة والشفقة والرأفة، وفعلت ما لم يفعله أحد قبلها حين أحرقت المعاقين في صورة ستظل عارا على صالح ونظامه، الذي سيوصف بأنه النظام الذي يقتل المصلين بعد صلاة الجمعة في جمعة الكرامة، ويحرق المعاقين في محرقة تعز في سادية بشعة، وعدوان قاس غشيم، ماذا صنع بهم المعاقون؟ وكيف طاوعتهم أنفسهم على قتلهم؟.
لما رأت القبيلة اليمنية ما صنع النظام في تعز تقدمت بمشائخها وأفرادها ورجالات الشموخ والعزة فيها لحماية الثوار، ولكنها ويا للعظمة لم تنجر إلى مربع العنف، فقد أصبح العنف في اليمن علامة مسجلة باسم النظام وقواته.
لقد برز دور القبيلة اليمنية باعتبارها فاعلة في الحضارة، تدعم سلمية الثورة، وتنضم إليها، وتمد يدها تحتضن الثوار، وتدفع بأبنائها للانخراط فيها، وتجسد الدور الوطني في القبيلة اليمنية كما هو شأنها، وأدت واجبها المقدس نحو اليمن كما هو ديدنها، وبذلت المجهود الشعبي لأجل الثورة بالمال والمواد العينية.
إن القبيلة كانت في طليعة الثورة السلمية، تركت السلاح، وهتفت بالكلمة: الشعب يريد إسقاط النظام، وانتمت القبيلة للحضارة، لأنها التي أنتجت الحضارة، وكانت صادقة وكان الصدق معها، وهي تضرب أروع الأمثلة الحضارية.
إن حضارة القبيلة اليمنية وسموها برز جلياً في تمسكها بخيار السلمية، وسمت في الأفق تحلق عاليا، لا تعترف بالحرب الأهلية، ولا تنجر للاقتتال الداخلي، وتعلم أن القتل حرام شرعاً.
وليت شعري ماذا يدرسون في الحرس الجمهوري والقوات الخاصة وغيرهم، ممن يقدمون على قتل النفس المحرمة. والله تعالى يقول: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (93) سورة النساء.. والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول في الحديث الصحيح أيضاً: "لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً".
mahamadhawryi@yahoo.com
رضية البعداني
ثورتنا فكر.... 2208