من يقرأ التاريخ الحديث -خاصة ما بعد الثورتين والوحدة – سيجد المجتمع اليمني لم يكن يوماً بهذه الجاهزية والتهيئة للانتقال إلى مرحلة الدولة الديمقراطية الحديثة التي أخفق الساسة في تحقيقها قبل الوحدة وبعدها .
فلأول مرة أشاهد فيها المواطن يذهب لصندوق الاقتراع أو يقاطعه سلمياً؛ رغبة في هذه الدولة العصرية الجامعة لكل اليمنيين ورغبة في التغيير لمجمل الأوضاع الاقتصادية والمجتمعية والمعيشية والخدمية والعسكرية والأمنية والديمقراطية والوطنية، فجميع هذه القضايا للأسف ظلت عالقة ومؤجلة إن لم نقل مهملة نظراً لعنت ورفض من مركز القرار.
اليوم اليمن يقف على عتبات مرحلة تاريخية استثنائية، فإذا كان اليمنيون قد أضاعوا فرصة التوحد عام 90م نتيجة لسوء استغلالها واستثمارها من النظامين الحاكمين ؛ فإنهم الآن أمام فرصة تاريخية نادرة الحدوث وعليهم أن لا يضيعوها مثلما سبق وأن ضاعت منهم فرصة التوحد قبل عقدين ونيف من الزمن أو فرصة انتخابات الرئاسة 2006م .
لا أحدثكم هنا عن كثير من الفرص المهدرة التي أتيحت للرئيس السابق ونظامه وتم إهدارها! لكنني أتحدث هنا عن أهم فرصتين سانحتين تم التفريط بهما من الشعب اليمني، فالوحدة السياسية بين الدولتين مثلت أولى الفرص لعملية التغيير السياسي ولمهمة بناء الدولة اليمنية الحديثة ومع أهمية التوحد كان النظام القبلي والعائلي هو المستفيد؛ إذ تمكن من دفع اليمنيين إلى كارثة الحرب ليخرج منها متوجاً بإكليل النصر والاستئثار على كل شيء بما في ذلك التوحد كوسيلة وطريقة للبناء والنهضة .
وإذا كان حالنا هكذا مع التوحد الذي يعود الفضل في حدوثه للمتغير السياسي الدولي قبل أن يكون منة ومكرمة من العليين اللذين هما أقل وأدنى من مستوى الانجاز السياسي الكبير، فإن انتخابات الرئاسة 2006م مثلت طوق نجاة ديمقراطي، لكننا مع ذلك فرطنا به بوعي ودون وعي، وحين نقول مثل هذا الكلام ؛ فلأن السنوات العشرين الماضية قد كشفت لنا ما هية الموحدين وحقيقة المشروعية المغتصبة.
ما يدعو للاطمئنان والتفاؤل اليوم هو أننا إزاء فرصة تاريخية لا نغالي بوصفها بكونها غير مسبوقة قديماً وحديثاً، وعندما نقول إنها كذلك ؛فلأن لدينا من الأسباب الموضوعية والذاتية التي تجعلنا نثق ونراهن بأن هذه الفرصة مختلفة كلياً عما سواها .
فالثورة الشبابية الشعبية بقدر ما هي مستلهمة أيضاً من ثورات ما بات يطلق عليه الربيع العربي ومن نضال أبناء الجنوب ومن ثورة التكنولوجيا والإعلام الكاسر لرتابة وجمود السيادة الوطنية والاحتكار ؛ بذات القدر هذه الثورة لديها من الحصانة والمنعة والمشروعية ما يجعلها قادرة على تجاوز مثالب وإخفاقات التوحد والديمقراطية .
فما يميز الثورة الشعبية عن التوحد والديمقراطية بل وعن ثورات وانتفاضات سالفة ؛ هو أنها القوة الضامنة والفاعلة في مسألة الانتقال الحاصلة اليوم، فكما هو معلوم بأن فشل وإخفاق التوحد والديمقراطية كان نتيجة لاقترانهما بالنخبة الحاكمة وبالنظام السائد وقوته وسطوته وسلطته أكثر من كونهما رهاني المجتمع اليمني ومصلحته وشراكته وإرادته فكل هذه الأشياء كانت غائبة ومقصية في كافة الثورات والتواريخ المهمة .
فلدينا الآن ثورة شعبية عارمة، ولدينا مجتمع مختلف ذهناً ورغبة وطموحاً، ولدينا مساحة وظرفية محلية ودولية لم تتوافر لأي من الثورات والانتفاضات وحتى التوحد، ولدينا من الوسائل والإمكانيات والعزيمة والإرادة والنية والفرصة ما تجعلنا نقول ونؤكد بأن هذه الثورة قوتها وضمانة كينونتها أنها من الشعب وإلى الشعب وستستمر بالشعب .
وهذا باعتقادي أفضل تعريف لمعنى الديمقراطية اليونانية التي قيل بأنها حكم الشعب بالشعب ومن أجل الشعب، إنها أنجع ثورة في التاريخ وعلى اليمنيين أن لا يتوقفوا عن انتخاب الرئيس ولكن عليهم اقتحام المستقبل ودون خوف أو جزع من كائن أو نظام، فهذه هي المرة الوحيدة التي يكون فيها الشعب هو القوة وهو الضامن وهو مالك السلطة وهو الفاعل وهو الثائر وهو مالك السلطة والثروة والشرعية .
ختاماً: اليمن مهيأ ومستعد لأية عملية سياسية ومجتمعية وديمقراطية ووحدوية ووطنية، وعلى هذا الأساس يجب فهم وإدراك الإقبال الكثيف على صناديق الاقتراع ومن دون زلط أو هبات وعطايا ومكرمات رئاسية ودونما دعاية وحشد المعسكرات والموظفين ودونما تهديد أو وعيد أو شعار الصوت مقابل المعاش .
لقد قبل اليمنيون بانتخاب مرشح وحيد دونما ضرورة لماهية وصورة المرشح أو الأحزاب الواقفة خلفه، فهذه المرة بالذات أجدهم يخلصون من ماضيهم وبطريقة تثير الإعجاب، شيخ مسن في المعلا لم يتمالك نفسه حين راح رافعاً إصبعه قائلاً: أحمدك يا الله فلقد انتظرت هذا اليوم طويلاً، قلت نعم لرحيل علي ولنظامه الكابوس ونعم لليمن الجديد، أعتقد أن الرجل قال فأوجز وعلى هذه الثورة أن لا تخذله .
محمد علي محسن
عملية انتقال بضمانة المواطن 2089