لست أدري لماذا تحفل بعض القوى الليبرالية بالمادة (الثانية والثالثة) من الدستور اليمني المتعلقتين بالإسلام دين الدولة،في حين أن الغرب الذي طغت عليه مظاهر العلمانية حد الغبن للدين المسيحي ما يزال في ذات المستوى من الوعي بنسيجه الاجتماعي ولا ينكر الجانب الديني أو يتنازل عنه رغم أن السلوكيات للمواطن الأوروبي لم تعد تحفل بالكنيسة ولا الإنجيل ولا تعير الصلاة أو القداس يوم الحد معنى إلا لدى فئة متدينة قليلة،ومع ذلك فإن الشعور الجمعي والكيان الأوروبي أو لنقل الدولة لا تتنازل عن الدين المسيحي في دساتيرها.. وحتى نوضح أكثر نلقي نظرة على بعض الدساتير لدول أوروبية، فمثلاً 1-جاء في الدستور الألماني مادة 1)-(المذهب الرسمي للأمة اليونانية هو مذهب الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية وفي المادة (47)(كل من يعتلي عرش اليونان يجب أن يكون من أتباع الكنيسة الرثوذكسية) رغم أنه يوجد الملايين في اليونان من أتباع (الكاثوليكية) وديانات أخرى إسلامية ويهودية.
2ـ (الدستور الدنماركي: جاء في المادة الأولى بند (5) (أن يكون الملك من أتباع الكنيسة الإنجيلية اللوثرية) وفي البند (3) من نفس المادة (الكنيسة الإنجيلية اللوثرية هي الكنيسة الأم المعترف بها).
3ـ الدستور الأسباني جاء في المادة (7) (رئيس الدولة يجب أن يكون من رعايا الكنيسة الكاثوليكية) وفي المادة (6) (المذهب الكاثوليكي هو المذهب الرسمي).
4-الدستور السويدي جاء في المادة (4)) (الملك يجب أن يكون من إتباع المذهب الإنجيلي الخالص وكذلك أعضاء المجلس الوطني (البرلمان)غير البروستانتيين أن يكونوا أعضاء في المجلس).
5-الدستور الفرنسي جاء فيه (للترشح لمنصب رئيس الجمهورية يجب أن يكون الشخص فرنسي الجنسية مسيحي وكاثوليكي الديانة).
6-الدستور الانجليزي لا يوجد دستور لأنه عرف متوارث ولكن المادة (3) من قانون التسوية تنص على التالي (كل شخص يتولى الملك يجب أن يكون من رعايا كنيسة انجلترا ولا يسمح لغير المسيحيين ولا لغير البروستانتينيين أن يكونوا أعضاء في المجلس).
وإذاً نحن أمام تراث ديني عريق ومحافظ عليه دونما تفريط في الدساتير الأوروبية،وفي هذا السياق يجري التحكم بالعملية السياسية التي لا تخرج عن المسيحية وأحياناً طائفة محددة فيما يخص رأس الهرم السلطة والمجالس النيابية، بما يعني أن الدول الأوروبية بمعنى ما تقع في فخ الانتهاك لحقوق الإنسان وحرياته،إذا ما نظرنا إلى هذا التعصب الوارد في الدساتير الخاصة بدولها من زاوية علمانية تدعيها وتنسبها لنفسها،وتدعي أيضاً أنها دول ديمقراطية وهي تحدد سلفاً من يكون رئيساً أو عضواً في مجلس نيابي ومع ذلك لم نجد أحداً إلا فيما ندر من المثقفين الغربيين ونخبة المجتمع الأوروبي يقف أمام هذا الانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان الذي يحرم أن يصل غير المسيحي إلى مستوى عضو برلمان في بعض الدول وفي كثير من الدول يحرم على غير المسيحي الوصول إلى الملك أو الرئاسة..هذا يعني أن الدول الأوروبية التي لديها تنوع (إثني) ديني وعرقي يصل إلى الملايين تنكر على هؤلاء حق الترشح حتى إلى عضو برلمان ولا يحق لهم الاعتراض على هذا ولا يمكنهم أن يصغوا إليهم، فيما لو أن أحداً منهم أثار هذه القضية وطالب حذف المواد الدستورية التي تعطي حقوقاً كاملة للأكثرية وتحرم منها الأقلية.. الأمر إذاً فيه مساس حقيقي بقيم العلمانية ذاتها وانتهاك صارخ للحقوق والحريات، كما أنه ديمقراطية غير متوازنة، أو لنقل غير رشيدة ومع كل هذا يبقى الاحترام للدستور من الجميع.. فيما البلدان النامية والأقل نمواً والمتخلفة ونحن منها مازلنا نتعثر ونتخبط في تناول المادتين (2،3) من الدستور وكأن الحياة ستتعطل عندهما، فيما يفترض علينا أن نقف عند نصوص دستورية مهمة يقتضي التعامل معها بما يتفق وروح العصر ومتطلبات النهوض الحضاري الشامل وتحديد بدقة صلاحيات رئيس الجمهورية دونما البقاء في بعض المواد بشكل غامض وعائم ويخضع للكثير من التأويلات والتفاسير، فمثلاً نجد مادة خاصة بشروط الترشيح لرئيس الجمهورية تنص على التالي:(أن يكون متمتعاً بحقوقه السياسية والمدنية)وأنا هنا لا أفهم ماذا تعني هذه المادة؟وهل مازال لدينا نظام القن أو العبيد حتى تصاغ هذه المادة بهذه الفضاضة؟ وأي إنسان يمكنه أن يترشح من حيث المبدأ لو لم يكن كذلك؟،لكنها ثقافة الاستبداد والمغالطات صاغت هذه المادة التي لا نجد لها تفسيراً واضحا ًوتبقى بلا محددات حتى لدى فقهاء القانون، وإلا فليتفضل أحد ويشرح لنا معنى هذه المادة (التمتع بالحقوق السياسية والمدنية ).ثم ما هو هذا اللفظ (التمتع) إنه حتى صياغة غير قانونية ف(التمتع والمتعة )مصطلح ديني أكثر منه سياسي وكان الأجدر هنا أن تضاف مادة تؤكد على :(أن يكون لديه الأهلية البدنية والنفسية)، بمعنى أن يكون صحيحاً وخالياً من الأمراض الفيسيولوجية والسيكولوجية وهو أهم بكثير من مادة (التمتع) التي تبقى محل سخرية كل من يطلع على هذا الدستور ويقف عليها وما أحوجنا فعلاً إلى رئيس جمهورية قبل الموافقة على قبول ترشيحه أن يخضع للجنة طبية محايدة ونزيهة تجري الفحوصات الكاملة البدنية والنفسية، باعتباره يتقلد منصب أعلى سلطة في الدولة ولا يمكن أن يعطى هذا المنصب لمن هب ودب ولديه عاهات وتشوهات بدنية أو نفسية، لما قد يتبع ذلك من أضرار جسيمة على الدولة والشعب ومخاطر غير عادية في اتخاذ قرارات حاسمة تتعلق بالسلم والحرب على سبيل المثال..كما ينبغي إضافة مادة (أن لا يكون قد صدر في حقه حكم قضائي مخل بالأمانة والنزاهة والمسؤولية والشرف)، فهذه المادة المقترحة تضع قيمة أخلاقية رفيعة لمنصب رئيس الجمهورية وتؤكد على احترام القيم المجتمعية وتحث عليها، كما أنها في مضمونها تعبر عن تجريم الفساد والفوضى والإخلال بالأمانة والنزاهة والمسؤولية، وهي أمور طالما أردناها واقعاً متجسداً كسلوك لمن يتولى هذا المنصب السيادي.. وإذاً علينا أن ننظر إلى الجانب القيمي ونعطيه المستوى المطلوب الذي ينبغي توفره لمن يتقدم للترشيح لمنصب رئيس الجمهورية.إلى جانب ذلك تضاف مادة كنت قد أتيت على ذكرها قبل ثلاثة أشهر في صحيفة، أخبار اليوم وهي: (لا يجوز لرئيس الجمهورية أن يعين أحداً من أقاربه إلى الدرجة الرابعة في مناصب حكومية أو عسكرية إلى مستوى الدرجة الثالثة)، كما يحرم على أبناء الرئيس مزاولة أي أعمال تجارية أثناء رئاسته سواء علناً أو من الباطن)، لما لذلك من أضرار حقيقية على الاقتصاد الوطني وتدخلات في اتخاذ قرارات لصالح أفراد بحكم القرابة للرئيس أو الوجاهة،وهو أمر لابد من التأكيد عليه لكون ذلك قد صار ظاهرة لدى السلطات العربية،رأينا ذلك في تونس،ومصر،وليبيا،وسوريا،واليمن)، فقد حدثت تدخلات أضرت بالاستثمار والاقتصاد الوطني وأخلت بالقوانين وبالمواصفات وأحدثت أضراراً للكثير من المناقصات،ولم يتم إرسائها على من هم جديرون بها بفعل نفوذ وقوة الأقرباء من رئيس الجمهورية.
وحتى يظل هذا المنصب لمن يترشح إليه خالياً من التأثيرات ومن أجل انتخابات حرة ونزيهة معبرة عن إرادة الجماهير،فإن الضرورة تقتضي إضافة مادة (أن لا يكون المرشح لرئيس الجمهورية قد شغل مرتبة عالية في السلك العسكري وأن يكون قد مضى عليه منذ خروجه منها مدة ثلاث سنوات)، بحيث يكون هناك ضمان حقيقي لعدم القدرة على التأثير في مجريات العملية الديمقراطية،وأن يكون المرشح قادراً على خوض التنافس للانتخابات بما يمتلكه من قدرات وإمكانيات حقيقية لا تستند إلى وجاهة ولا إلى مال ولا سلطة.
وفي كل الأحوال تبقى هناك حاجة ماسة وضرورية في صياغة مادة تجرم كل من يعمد إلى استغلال ظروف المواطنين وحاجياتهم المعيشية بهدف التأثير على آرائهم أو أصواتهم في الانتخابات، فمن خلال واقع التجربة رأينا مقدار التدخلات والنفوذ الغير عادي في كل انتخابات جرت في عهد النظام السابق وصار من يدفع أكثر هو من يقدر على الصعود إلى مواقع البرلمان أو أي مواقع تقوم على الانتخابات، ولعب المال في هذا الجانب دوراً خطيراً نستطيع القول عنه أنه قد أضر كثيراً بالعملية الديمقراطية في الصميم وخلق روحاً انتهازية لدى البعض وقدم الديمقراطية أسلوب احتيال وليس طريقة لنظام حل المشكلات بطرق منتظمة وخالية من التحايل والخداع، ورأينا أن تأثير المال وصل إلى مستوى أن يكون هو البرلمان وليس القدرات والكفاءات وأصحاب الرأي السديد.
جدير هنا القول أن رؤساء دول في أوروبا يتعرضون للمسائلة لمجرد الاشتباه أن أحدا منهم تلقى دعماً في انتخاباته من غير ما هو متعارف عليه، والحقيقة أن بلداً كاليمن فقير ويعاني من التخلف والأمية قابل لأن تزور فيه إرادة الناخبين إذا وجد من يضخ المال ويمارس الدعاية الديمقراطية بطريقة غير صحيحة وتستهدف التلاعب بالعقول والمشاعر،وهو ما يؤدي إلى احتقانات لعلنا شهدنا في فترات سابقة مقدارها، حيث وصلت إلى مستوى ممارسة العنف وإلى لغة إدانية اتهامية مفرطة لا تشير بأن ثمة من يستحق التصويت له وهو يأتي من ركام التخلف والإلغاء الذي أضر بالحياة المدنية حتى وصل الوطن إلى مرحلة الانفجار الكبير وإلى الثورة وخروج الشباب إلى الساحات للتغيير شعوراً منهم بأن كل تمثيل لهم باطل والسلطة السابقة باطل الأباطيل،لأنها أنبنت على الوجاهة والمال والقوة والترغيب والترهيب ومنح إغراءات بالمناصب وحتى السلاح.
وإذاً ما أحوجنا إلى مواد تجرم كل ذلك وتؤكد على أن تكون الانتخابات النيابية والرئاسية نزيهة وخالية من أي مؤثرات تهدف إلى التلاعب بالعملية الانتخابية، على أن هناك جانباً آخر في الدستور اليمني وهي المادة التي تقول ما نصه: (لا يجوز الجمع بين عضوية مجلس محلي أو أي وظيفة عامة وتستثني من ذلك الجمع بين مجلس النواب ومنصب وزير وهذا فيه اختلال كبير وجمع بين متنافرين،فمجلس النواب جهة تشريعية رقابية على السلطة التنفيذية (الحكومة) والوزراء تنفيذيون، وإذاً كيف يكون الوزير في مجلس النواب ؟وكيف يمكن له أن يكون نزيهاً في الجانب التشريعي والرقابي؟ كيف سيسائل نفسه ويطلب حضور نفسه إلى المجلس ؟كيف يقبل الرقابة على وزارته وأدائها؟، إن هذا مدعاة لإحداث اختلالات كبيرة وفساد غير عادي بفعل الجمع بين النواب والوزارة، فالوزير قادر إذا ما كان عضواً في البرلمان أن يؤثر على نواب آخرين بحكم الصداقة وبصفقات إن لزم الأمر كي لا تراقب وزارته ولا يسائل، وذلك أمر يضر بالإصلاحات ويزيد من شراء الذمم أو يخلق على الأقل علامة استفهام في صحة هذا المجلس.
في الأخير أظن أننا في حاجة ماسة إلى النظر بعين الوطن ومصالحه إلى مواد الدستور وما فيها من اختلالات لنبدأ خطوة صحيحة ونعول هنا على رجال القانون وعلى النخبة المثقفة وعلى القدرات والكفاءات المجربة وفي المقام الأول نعول على رئيس الجمهورية (عبد ربه منصور هادي) في العمل على وضع دستور خالٍ من الشوائب ويحقق الهدف الأسمى لمواطنة متساوية ولاحترام الحقوق والحريات وإتاحة الفرص ولشراكة وطنية بين أبناء الوطن الواحد.
محمد اللوزي
الدستور.. وإشكاليات العصرنة 2027