ما أصعب الكلام عن الوحدة، وما أوجع الحديث عن الانفصال، في كلا الحالتين حالنا واحد، فإما التضحية بذاتك وقوتك ومواطنتك وحقك لتثبت وحدويتك، وإما التضحية بتاريخك وأفكارك ومبادئك وتوحدك وإنسانيتك من أجل انفصالك، الأمر يبدو سيان، أشبه بثنائية الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي في رواية (ذاكرة الروح والجسد)، وذلك في قولها: «إنني في وطن يخيرك مابين الموت بالقتل أو الكوليرا، فأيهما اخترت لن تجد سوى حتفك» نحن كذلك، وإن كنا في هذا البلد نُقسر ونجبر على الفعل ذاته دونما خيرة أو رضا، لكننا مع هذا الاختلاف في طريقة الخلاص، هنالك ثمة جامع مابين الاثنين، وهو القتل أو الإكراه على الموت.
أسأل دوماً ما إذا كان باستطاعتنا مغادرة هذه الثنائية المستبدة إلى وطن آخر فيه متسع للجميع؟ الوحدة بصيغتها القائمة منذ اجتياح الجنوب عام 94م صارت مكرسة للفرقة والانقسام أكثر مما هي مجسدة للتوحد والبقاء، 14 عاماً وقت كان كافياً لتجاوز ما حدث لوحدة 22 مايو 90م السلمية من قتل وإقصاء وتدمير، ومع كل المدة الزمنية التالية لهزيمة أول مشروع وحدوي سلمي بين نظامين ودولتين وثقافتين لم يجهد المنتصر في الحرب نفسه في محاولة جادة لإصلاح ما أفسدته الآلة العسكرية في محافظات الجنوب، على الرغم من سنوح فرص لا تحصى، كانت الظروف فيها مواتية لمعالجة الإخفاق والفشل السياسي، وجدنا العكس من الإجراءات والممارسات اللاوحدوية واللامسئولة واللاأخلاقية واللاإنسانية.
الانفصال أيضاً بشكله الحالي ما يزال تطلعاً، ولم يصل بعد إلى مشروع وغاية جامعة لغالبية أبناء الجنوب، ربما فقدان الشعور بالمواطنة المتساوية أو الدولة الواحدة والوطن الواحد سبب كاف لأن يحتمي الإنسان بما هو أدنى من الدولة المستبدة كالقبيلة أو الطائفة أو المنطقة أو الجهة، طالما وجد في هذه الأشياء حقاً ومصلحة، لا أدري ما إذا كان يوجد مشروع انفصالي غايته تجزئة اليمن جغرافيا، وإعادة براميل الشريجة وسناح إلى مواضعها قبل عملية التوحد، ما أعلمه هو أن هؤلاء الانفصاليين ليسوا بأخطر ممن أوجد الفرقة والانقسام بداخل كل فرد في المجتمع، لا وجه للمقارنة بين متظاهر ساخط على الوحدة وبين سطوة حاكم رافع لواءها، بين أناس فقدوا كل شيء في كنف الدولة الموحدة بالعلم والنشيد وبين قوى قبلية وجهوية ظفرت بكل شيء، بين آلاف أخذت منهم الوحدة الوظيفة والمنزل والأرض وحتى المواطنة الغائبة أو الدولة المفقودة وبين عشرات أخذوا الوظائف والحقوق والمال والاستثمار.
قلنا مراراً بضرورة إيجاد صيغة جديدة للوحدة المشوهة القائمة، فغياب المشروع الوحدوي الواحد كفيل بحضور ما هو أسوأ من المطالبة بالانفصال، الوحدة كقيمة جمعية ونفعية للناس في الجنوب والشمال انتهت وقتلت، وعلينا التفكير بوحدة قابلة للاستمرار والتطور، فسبر غورها بالعودة عنها إلى الدولة الشطرية ليس حلاً لقضية معقدة ومتشابكة كهذه التي نعيشها، كلاهما الوحدة والانفصال صارا ملهاة أكثر مما هما واقع وحقيقة، لذلك لا يستلزم منا الانشغال بهما بعد كل هذه السنوات المليئة بالتجربة والبرهان، نعم الوحدة ليست فضيلة ولا الانفصال رذيلة، ونعم الوحدة مصلحة ومنفعة جامعة ومتى فقدت هذه القيمة بطلت وفسدت من أصلها.
الحديث عن الدولة الموحدة في مثل هذه الظروف اللاوحدوية هو أشبه بالوهم أو الخديعة، كما أن معالجة المشكل بذات الانكفاء والجمود هو رهان خاسر، ولن يفضى إلى نتيجة مهما تراءى للبعض المشهد الراهن الناتج عن المعاناة.. الوحدة على هذه الشاكلة مستحيلة والعودة عنها شبه مستحيلة، فهلا رفضنا الاثنين معاً.
*صحيفة الأيام 25-3-2008م
محمد علي محسن
ملهاة الوحدة والانفصال 2390