قال تعالى :(إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا) فالقضاء هو الفصل بين الناس في الخصومات حسما للخلاف وقطعا للنزاع بمقتضى الأحكام التي شرعها الله. ذلك أن تحقيق العدل وإقامة الحق ينشر الأمن ويشيع الطمأنينة وينمي الثقة بين الحاكم والمحكوم ويصلح الوضع في الدولة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا وأخلاقيا. ويمضي بالجميع إلى غايتهم في العمل والإنتاج فتتقدم البلاد وترتقي دون أن يقف أمام نهوضها وتطورها أي عائق. وقد حضت اليمن باهتمام الرسول صلى الله وعليه وسلم منذ فجر الإسلام الأول ففي الوقت الذي ولّى فيه عتاب بن أسيد) قضاء مكة المكرمة ولَّى أيضا (علي ابن علي طالب) كرم الله وجه قضاء اليمن لما لها من منزلة عظيمة في قلبه ولأنها مباركة وأهلها ارق قلوبا والين أفئدة. لكن الرسول لم يترك مبعوثه إلى اليمن دون أن يعلمه كيفية القضاء بين الناس فقال له: (يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقضي بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فانك إن فعلت ذلك تبين لك القضاء) ومن هذا المنطلق فقد تحقق العدل وساد الإنصاف وحُمِيَت الحقوق والأعراض والممتلكات وحلّ الرخاء واختفت المظالم واتصف الناس بالمكارم واستبانت المعالم و لم يعد هناك وجود لظالم . واستمر العدل محققاً عبر التاريخ.فماذا عن القضاء اليمني حالياً؟ وكيف حال المتقاضيين؟ وهل المبادئ الحاكمة للقضاء والتقاضي مطبقة في الواقع من قبل القضاة الإجلاء؟ وهل هم مقيدون بالقانون وخاضعون لتطبيقه؟ فقد نصت المادة (8) من قانون المرافعات (يتقيد القاضي في قضائه بالقوانين النافذة ويجب عليه تطبيق أحكامها) ومن باب الإنصاف فهناك من القضاة من يطبق الشرع والقانون ويسير وفق الإجراءات التي رسمتها القوانين وينصف المظلوم ويسمع أكثر مما يتكلم لان منصبه يقتضي ذلك. فمن سماع الدعوى إلى الرد عليها وسماع الأدلة والدفوع والدفاع والاعتراضات والردود والمناقشات والتعقيبات وغير ذلك فيخلص بالنتيجة إلى حكم الشرع والقانون وتحقيق العدالة بين الناس . بَيْدَ انه وللأسف الشديد يوجد من لا يحترم القواعد الحاكمة للقضاء والتقاضي ولا يعمل بها كاملة ولا يُسيّر إجراءات تتفق مع القوانين النافذة. وبسبب ذلك فلا يتمكن الخصوم من شرح مظالمهم وتقديم كامل ردودهم وأدلتهم ودفاعهم وتكون النتيجة عدم إستبانة الحق والوصول إلى حكم جائر غير عاد ولو طُبِّقَ الشرع والقانون لما حصل ذلك. مع أن القانون قد نظم العلاقة بين القاضي والمتقاضي وبين القاضي والمحامي كما انه بين أن المتقاضيين متساوون في ممارسة حق التقاضي ويلتزم القاضي بإعمال مبدأ المساواة بين الخصوم في هذا الحق متقيدا في ذلك بأحكام الشريعة الإسلامية والقوانين النافذة. فحق الادعاء والدفاع مكفولان أمام القضاء وممارسة حق التقاضي يقوم على مبدأ حسن النية ويجب على القاضي المحافظة على مبدأ المواجهة أثناء التقاضي ويضمن احترامه بين الخصوم ويجب على القاضي الحرص على كفالة حسن سير العدالة وله في سبيل ذلك مراقبة الخصوم في ممارسة الإجراءات ويتقيد القاضي في قضائه بمبدأ الحياد. وجلسات المحاكمة تكون علنية إلا ما استثني بنص خاص والأصل في المرافعة الشفوية ويجوز أن تكون كتابية والبينة على المدعي واليمين على من أنكر والأصل في الإنسان براءة الذمة ومن يدعي العكس فعليه بالإثبات ويجب أن تدار جلسات المحاكمة بطريقة تبعث على ثقة المواطنين في عدالة القضاء ومساهمتهم في إعادة تربية المواطن الذي يستحق العقاب وتحقيق الوقاية من ارتكاب الجريمة في المستقبل ولا إدانة إلا بناء على أدلة وتقدير الأدلة يكون وفقا لاقتناع المحكمة في ضوء مبدأ تكامل الأدلة فلا يتمتع أي دليلا بقوة مسبقة في الإثبات ويقع عبء إثبات أي واقعة على المدعي بقيامها ولا يجوز للقاضي أن يمتنع عن الحكم فيما وُلّيَ فيه بدون وجه قانوني وإلا عُد منكراً للعدالة. ذلك هو جزء هام من المبادئ الحاكمة للقضاء والتقاضي المنصوص عليها في المواد (16, 17, 18, 19, 20, 21, 23, 24) من قانون المرافعات والمواد (318, 321, 324) إجراءات جزائية والمادة (2) إثبات والمواد (11, 668, 669) مدني . والشيء المعيب هو انه إذا ذُكِّر بعض القضاة بشيء من هذه النصوص والمبادئ أثناء التقاضي في الجلسات تجد من لا يُبْدِي ارتياحهُ لذلك وتظهر عليه الكآبة وعدم انشراح الصدر وربما يقول جئت تعلمني مع أن العلم من المهد إلى اللحد وربما يشعر أن في ذلك نقصاناً في حقه و تقليلاً من مكانته وهيبة قضائه. والحقيقة أن في ذلك رفعة له لأنك ذكرته والذكرى تنفع المؤمنين والقانون قد اوجب على المحكمة الاستماع إلى أقوال الخصوم حال المرافعة كلا في دوره وبيَّن انه لا يجوز مقاطعتهم إلا إذا خرجوا عن موضوع الدعوى أو مقتضيات الدفاع فيها ويكون المدعى عليه آخر من يتكلم ذلك ما نصت عليه المادة (164) مرافعات ناهيك أن القواعد القضائية السالف بيانها مأخوذة ومقتبسة من الشريعة الإسلامية والأحكام الفقهية ومن رسالة الخليفة عمر بن الخطاب في القضاء التي أرسلها إلى أبي موسى الأشعري عندما وُلِّيَ القضاء في الكوفة وهي عبارة عن دستور متكامل ونوردها كما هي كي يستفيد القاضي والمحامي والمتقاضي والقارئ الكريم.
بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين، إلى عبد الله بن قيس (أبي موسى الأشعري)، سلام عليك، أمَّا بَعْدُ، فإنَّ القضاء فريضة محكمة وسُنَّة مُتَّبَعة، فافهم إذا أُدْلِيَ إليك، فإنَّه لا ينفع تكلُّم بحقٍّ لا نَفَاذَ له، آسِ بين الناس في مجلسك ووجهك وعدلك؛ حتى لا يطمع شريف في حَيْفِك، ولا يخاف ضعيف جَوْرَك، البيِّنَة على مَنِ ادَّعى، واليمين على من أنكر، الصلح جائز بين المسلمين إلاَّ صلحًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالاً، لا يمنعك قضاءٌ قضيتَه بالأمس راجعتَ فيه نفسك وهُدِيتَ فيه لرشدك أنْ تُرَاجع الحقَّ، فإنَّ الحقَّ قديم، وإنَّ الحقَّ لا يبطله شيء، ومراجعة الحقِّ خير من التمادي في الباطل، الفهمَ الفهمَ فيما يختلج في صدرك مما يبلغك في القرآن والسنة، اعرف الأمثال والأشباه ثُمَّ قِسِ الأمور عند ذلك، فاعْمِد إلى أحبِّها إلى الله وأشبهها بالحقِّ فيما ترى، واجعل للمدَّعي أمدًا ينتهي إليه، فإنْ أحضر بيِّنَة وإلاَّ وجَّهت عليه القضاء، فإنَّ ذلك أجلى للعمى، وأبلغ في العذر، المسلمون عدول بينهم، بعضهم على بعض، إلاَّ مجلودًا في حدٍّ أو مجرَّبًا في شهادة زور، أو ظَنِينًا في ولاء أو قرابة، فإنَّ الله تولَّى منكم السرائر، ودرأ عنكم بالبيِّنات، ثم إيَّاك والضجر والقلق، والتأذي بالناس، والتنكر للخصوم في مواطن الحقِّ التي يُوجِبُ الله بها الأجر، ويحسن بها الذكر، فإنه مَن يُخْلِص نيَّته فيما بينه وبين الله يُكْفِه الله ما بينه وبين الناس، ومَن تزين للناس بما يعلم الله منه غير ذلك شانه الله ) وبناء على هذه الرسالة فلا يصلح للقضاء إلا من كان ورعاً تقياً زاهداً فقيهاً واسع الصدر عالماً بالكتاب والسنة وإجماع الأمة والقياس والنحو والصرف والبلاغة والمنطق وقادرا على التفريق بين الخطأ والصواب وبلغ درجة الاجتهاد.
أحمد محمد نعمان
التًّقَاضِي.. أمَامَ المَحَاكِمِ اليَمَنِيَّة !!! 1825