لا تجعل الإنسان عبداً لهواه، تستعبده اللذة، أسيراً لها يجري تحت إرادتها أينما توجهه سار خلفها، لأنه لو أطلقها من كل قيد وضابط، ستكون الحرية بهذا الشكل أقرب ما تكون إلى الفوضى، التي يثيرها الهوى والشهوة، ومن المعلوم أن الهوى يدمر الإنسان أكثر مما يبنيه، وإنما تمامُ الحرية - لا كمالُها - قد يكون بالمنع أحيانًا؛ فالمريضُ حين يُمنع عن الطعام الذي يضره هو حرٌّ لم يُنْتَقَصْ من حريته فتيلٌ ولا قطميرٌ؛ فذلك المنع إنما هو منعٌ مؤقتٌ؛ لتسلم له بعد ذلك حريتُه في تناول ما يشاء من الأغذية، والمجرمُ تُحَدُّ حريتُه مؤقتًا؛ ليعرف كيف يستعمل حريته بعد ذلك في إطار كريم، لا يؤذي نفسه، ولا يؤذي الآخرين.ثم إن الإنسانَ مدنيٌّ بطبعه؛ فلا يعيش وحده، وإنما يعيش في مجتمعٍ متماسك يؤذيه كلُّه ما يؤذي بعضَه، ومن هنا كانت الحريّةُ المطلقةُ فوضى.وفي الفوضى التي يعبر عنها الناسُ بالحرية الشخصية عبوديةٌ ذليلةٌ لمن هو مثلُك، أو دونك من قيم الحياة المادية؛ فحين تستولي على الإنسان عادة الانطلاق وراء كلِّ لذةٍ، والانفلاتِ من كلِّ قيد يكون قد استعبدته اللذةُ على أوسع مدى، فيصبح أسيرًا لها مُكَبَّلًا في أغلالها، لا يجري في الحياة إلا لأجلها، ولا يعمل إلا وَفْقَ ما تريد.
فهذه الحريةُ التي تنقلب إلى عبودية أهونُ ما في الحياة من قيمة ومعنى. ولئن كانت قيمةُ الإنسان بمقدار ما يناله من لذائذه، فإن الحيوانَ أكثرُ منه قيمة، وأعلى قدرًا.وحين ينطلق الإنسانُ وراء فتاةٍ يهواها، أو وراءَ الغانيات يشبع بهن لذائذَه، أيستطيع أن يزعم أنه حرٌّ من سلطانهن؟ !! أو تراه أسيرَ اللحظات، رهنَ الإشارةِ، شاردَ اللبِّ، مُعَنّى القلبِ أقصى أمانيه في الحياة بسمة من حبيبٍ هاجرٍ، أو وصال من جسم ممتنع؟ ! أيةُ عبوديةٍ أذلُّ من هذه العبودية، وهو لا يملك زِمامَ نفسِه، ولا حريّةَ قلبِه؛ فلا يتحكَّم في حبه ولا بغضه، ولا رضاه، ولا غضبه؟ ! (انظر: أحكام الصيام وفلسفته:مصطفي السباعي:54 وما بعدها) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"فإنَّ أسْرَ القلبِ أعظمُ من أسر البدن، واستعبادَ القلب أعظمُ من استعباد البدن؛ فإن مَن استُعْبِد بدنُه، واستُرِقّ وأُسِر لا يبالي إذا كانَ قلبُه مستريحًا من ذلك مطمئنًّا، بل يمكنه الاحتيالُ في الخلاص؛ وأما إذا كان القلب - الذي هو مَلِك الجسم - رقيقًا مستعبدًا متيَّمًا لغير الله؛ فهذا هو الذلُّ، والأسرُ المَحْضُ، والعبوديةُ الذليلة لما استعْبَدَ القلبَ. وعبوديةُ القلب، وأسرُه هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب؛ فإن المسلمَ لو أسره كافرٌ أو استرقّه فاجرٌ بغير حق؛ لم يضرَّه ذلك إذا كان قائمًا بما يقدر عليه من الواجبات، ومن استُعْبِد بحق إذا أدّى حقَّ الله وحقَّ مواليه فله أجران، ولو أُكره على التكلّم بالكفر وقلبه مطمئن بالإيمان لم يضرَّه ذلك. حرية التملك: ويقصد بالتملك حيازة الإنسان للشيء وامتلاكه له، وقدرته على التصرف فيه، وانتفاعه به عند انتقاء الموانع الشرعية.
وقد أعطى الإسلام للفرد حق التملك، وجعله قاعدة أساسية للاقتصاد الإسلامي، ورتب على هذا الحق نتائجه الطبيعية في حفظه لصاحبه، وصيانته له عن النهب والسرقة، والاختلاس ونحوه، ووضع عقوبات رادعة لمن اعتدى عليه، ضماناً له لهذا الحق، ودفعاً لما يتهدد الفرد في حقه المشروع.. وهذه الحرية لا فرق فيها بين الرجل والمرأة، قال الله تعالى: {للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن}.
كما أن الإسلام رتب على هذا الحق أيضاً نتائجه الأخرى، وهي حرية التصرف فيه بالبيع أو الشراء والإجارة والرهن والهبة والوصية وغيرها من أنواع التصرف المباح.
غير أن الإسلام لم يترك (التملك الفردي) مطلقاً من غير قيد، ولكنه وضع له قيوداً كي لا يصطدم بحقوق الآخرين، كمنع الربا والغش والرشوة والاحتكار، ونحو ذلك، مما يصطدم ويضيع مصلحة الجماعة.
وهناك التملك الجماعي وهو الذي يستحوذ عليه المجتمع البشري الكبير، أو بعض جماعاته، ويكون الانتفاع بآثاره لكل أفراده، ولا يكون انتفاع الفرد به إلا لكونه عضواً في الجماعة، دون أن يكون له اختصاص معين بجزء منه، مثاله: المساجد والمستشفيات العامة والطرق والأنهار والبحار وبيت المال ونحو ذلك.
وما ملك ملكاً عاماً يصرف في المصالح العامة، وليس لحاكم أو نائبه أو أي أحد سواهما أن يستقل به أو يؤثر به أحد ليس له فيه استحقاق بسب مشروع وإنما هو مسئول عن حسن إدارته وتوجيهه التوجيه الصحيح الذي يحقق مصالح الجماعة ويسد حاجاتها.
- حرية العمل: العمل عنصر فعال في كل طرق الكسب التي أباحها الإسلام، وله شرف عظيم باعتباره قوام الحياة؛ ولذلك فإن الإسلام أقر بحق الإنسان فيه في أي ميدان يشاؤه ولم يقيده إلا في نطاق تضاربه مع أهدافه أو تعارضه مع مصلحة الجماعة، أختص الله - عزَّ وجل - النَّوع الإنساني من بين خلقه بأنْ كرَّمه وفضَّلَه وشرَّفه، فلإنسان شأنٌ ليس لسائر المخلوقات؛ فقد خلَقَه البارئُ تعالى بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته؛ إكرامًا واحترامًا، وإظهارًا لفضله، واتَّخذ - سبحانه - من هذا الإنسانِ الخليلَ والكليمَ، والولِيَّ والخواصَّ والأحبار، وجعله مَعْدِنَ أسراره، ومَحلَّ حكمته، وموضِعَ مثوبته.
وهذه الورقة ما هي إلاَّ بيان لبعضِ مكرمات الله تعالى لِهذا الإنسان، والتي يُمكن استخلاصها من القرآن الكريم على النَّحو التالي:
أولاً: تكريم الذات:
إنَّ تكريم الإنسان في القرآن هو تكريم لِذَاته الإنسانية: "وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ" [التغابن: 3]، وتكريمٌ لِدَوره في إعمار الأرض: هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا [هود: 61]، فهذا التَّكريم هو اسم جامعٌ لكلِّ الخَيْر والشَّرَف والفضائل[1].
ثانيًا: الإيجاد:
من إكرام الله للإنسان أنْ أوجَدَه بعدما لم يكن شيئًا مذكورًا، ولا يُعرف له أثر؛ قال - عزَّ وجلَّ: "هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا" [الإنسان: 1]، والمعنى أنه كان جسَدًا مصوَّرًا، ترابًا وطينًا، لا يُذْكَر ولا يُعرَف، ولا يُدْرَى ما اسْمُه؟ ولا ما يُراد به، ثُمَّ نَفَخ فيه الرُّوح فصار مذكورًا، وقال يحيى بن سلام: لم يكن شيئًا مذكورًا في الخَلْق، وإن كان عند الله شيئًا مذكورًا[2].
ثالثًا: خِلْقتُه على الفطرة:
من كرامة الإنسان أنْ خلَقَه الله مَجْبولاً على الإيمان؛ قال سبحانه: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الَّلهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" [الروم: 30]، ومعناه: أنَّه تعالى ساوى بين خلْقِه كلِّهم في الفطرة على الجبِلَّة المستقيمة، لا يُولَد أحدٌ إلاَّ على ذلك، ولا تَفاوُتَ بين الناس في ذلك [3].
وزيادةً في تكريم الذَّات الإنسانية فإنَّ الإيمان بالله لا يكون وراثيًّا، كما لا يكون منَّةً ولا أمرًا مفروضًا, ولكن يكون بفِعْل إرادة فرديَّة حُرَّة، وهداية ربَّانيَّة نورانيَّة: "وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" [الكهف: 29]، "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ" [البقرة: 256]، "يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور: 35].
ولتأكيد على الحُرِّية الإنسانيَّة التكريمية تَرِد في القرآن الكريم آياتٌ عديدة تُذَكِّر النبِيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بِحُدوده الدَّعَوية، ومن هذه الآيات:
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [النساء: 80].
"قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ" [الأنعام: 104].
"فمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ" [الزمر: 41].
"فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ" [الغاشية: 21 – 23].
رابعًا: الخلافة وإعمار الأرض:
تعكس خلافة الإنسان في الأرض أسْمَى مراتب التَّكريم الإِلَهي "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 30].
تعني الحرية أن تكون للإنسان الخيرة في أن يفعل ما يريد بشرط عدم الإضرار بالآخرين. أما الحرية الشخصية فيختلف مدلولها بحسب العلم. أن تحديد مدلول الحرية الشخصية في نظر القانون قد أثار بعض الصعوبات، إذ تعددت مدلولاتها بحسب الوجهة التي تتجه صوبها مواقف الفقهاء وخطة التشريعات.
حدود الحرية الشخصية كما حددها حديث رسولنا الكريم عَنِ النُّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: [مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ, وَالوَاقِعِ فِيهَا, كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُم أَعْلاهَا وَأَصَابَ بَعْضُهُم أَسْفَلَهَا, فَكَانَ الذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فََوقَهُم فَآذَوهُم, فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقاً وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا, فِإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعاً, وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا ونَجَوْا جَمِيعاً]. رواه البخاري والترمذي
× كاتب مصري خبير في القانون العام
د. عادل عامر
الكرامة الإنسانية قرينة الحرية الشخصية 2115