هذا ولا تزال نظمُنا الحاكمةُ بعيدةً كلّ البعد في فكرها وسلوكها عن المعنى الحقيقي لفكرة الوطن والمواطن والمواطنة والمتمثلة في الاشتغال على بناء الحكم المدني الصالح من خلال وجود المواطن السليم المعافى القادر على العمل والإنتاج واستخدام طاقاته النفسية والمعنوية في بناء وطنه الحر وإنشاء المؤسسات المدنية الفاعلة، وربط المواطنة الحقيقية للفرد بحقوق وواجبات ومصالح ومسؤوليات والتزامات تخص الجميع بما فيها النخب الحاكمة وبمعنى آخر تتأسس الوطنيةُ الحقيقيةُ على بنيةٍ مجتمعيةٍ مدنيةٍ تعاقديةٍ يترتب عليها منظوماتٌ حقوقيةٌ وثقافيةٌ ومؤسساتيةٌ ديمقراطيةٌ وتمثيليةٌ قادرةٌ على الانتقال بالأمة من مجرد سديم بشري هائم وغائم وعائم إلى مستوى كتلة تاريخية منسجمة مندمجة وموحدة الرؤية في وعيها لذاتها ودورها الحضاري الرائد المناط بها حاضراً ومستقبلاً.
وقد أفضت كل تلك الأسباب مجتمعةً إلى جعل إنساننا العربي المعاصر ـ طبعاً بعد مرور عقود طويلة صعبة ومريرة من السيطرة والهيمنة والسحق والإلغاء المتواصل ـ إنساناً مشلول التفكير والإرادة، وعاجزاً عن الحركة الذاتية بأي اتجاه.. كما أنه لا غرابة في ظل تلك الأجواء التناقضية المتوترة على الدوام أن يعيش الإنسان العربي مغرّباً ومغترباً عن ذاته، مستباحاً ومعرضاً لمختلف المخاطر، فهو على الهامش تشغلُهُ لقمةُ العيش، لا يجد مخرجاً سوى "الخضوع أو الامتثال القسري"، يجتر هزائمه الخاصة والعامة وهو مغلوب على أمره، عاجز عن التغيير أو تحدي قوى الاستبداد، إذ أنه (كما نراه حالياً) يعاني من الأمراض والتشوهات الاجتماعية والنفسية بشكل يجعله غير قادر على التفكير المنطقي السليم، والحركة العقلانية النوعية الهادفة والخالية من الشطط.. وبالنتيجة فقد أصبحنا أمام إنسان مقصي مهمش، وغير متفاهم مع ذاته ومحيطه، الأمر الذي انعكس تناقضاً واضحاً في سلوكه اليومي، وفي وعيه لحياته وطريقة تعامله مع همومه الخاصة والعامة..
وقد رأينا كيف أن المواطن العربي كثيراً ما يتصرف بشكل مضاد لمصالحه ومصالح وطنه وأمته، وهو يفعل هذا بدافع شحنة التشوهات والمتناقضات والعاهات النفسية والاجتماعية التي يعاني منها، والقصور الذاتي الذي هو واقع فيه نتيجة سيطرة مفاهيم وثقافة الاستبداد على حركته الوجودية ككل، كالضبط والردع والأمر والنهي وووالخ.. من هنا يأتي تأكيدنا على ضرورة تغير الطبائع والنفوس، كأساس لتغيير الواقع الخارجي، أي تغيير الواقع الثقافي والمعرفي السائد، حيث أن جذر العطالة وعلة الأزمة كامن هنا.. لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وفاقد الإرادة والحيوية والتضحية ـ وكل قيم الفاعلية والحركية والنشاط والاندفاع العقلاني باتجاه العمل المنتج والمبدع ـ لا يمكن أن ينطلق مبدع ومنتج في أي موقع أو مجال من المجالات، بل يبقى في موقع المتلقي والمتأثر والمستهلك لمنجزات وإبداعات الآخرين .. ومجتمعاتنا العربية حالياً تقدّم لنا أفضل مثال ونموذج حي على ذلك الارتكاز الحضاري والتقهقر المعرفي الإبداعي على الرغم من بعض النقاط المضيئة هنا وهناك، وهي على كلٍ بسيطة وقليلة لا تشكل حالة فريدة متميزة يمكن الاعتماد عليها.. حيث أنها حضارة لا تنتج شيئاً على الإطلاق تقريباً، وتستهلك كل شيء مما ينتجه ويصنعه الآخرون.. حتى سياساتها الداخلية المحلية، لا يرسمها أو يخططها قادة وزعماء تلك الدول إلا بما يتناسب مع مصالح الدول والقوى الكبرى.. إنها مجرد مجتمعات خاملة مستهلكة تعبة لا تقدم شيئاً للحضارة ولا لنفسها، يتحكم فيها مجموعة حكام يفكرون بعقليات بدائية، ويحكمون بلدانهم من زمن بعيد على أسس عشائرية عائلية عاطفية هوجاء، بعيدة كل البعد عن أي منطق أو مبرر عقلي صحيح، سوى تكريس مكاسبهم ومصالحهم، والبقاء الدائم في الحكم واستمرار الوجود على رأس النظام والدولة. وبالنتيجة نؤكد أن الاستبداد والتسلط (القهر القائم على العنف العاري) ـ وهو ركن الحكم العربي على وجه العموم بمختلف ألوانه وأشكاله ـ هو شيء أعمى يسير عكس حركة التاريخ والحضارة والحياة الإنسانية الطبيعية.. وهو قانون قسري ظالم، والقسر استثناء لا يدوم، لأنه يقف على طرفيْ نقيض من فطرة الإنسان، ومن حريته، ومن قدرته على تحقيق الاختيار السليم، بل إنه يشل طاقة التفكير واستخدام العقل والفطرة الصافية عند الإنسان، ويرهن مصائره للمجهول، ويجعله أسيراً بيد الجهل والتخلف.. وهنا تقع الكارثة الكبرى عندما يفقد هذا الإنسان حريته.. لأنه يفقد معها كل شيء جميل في الحياة.. إنه يفقد العزة والكرامة والأخلاق والعلم، وبالتالي يكون مصيره الموت المحتم أو العيش على هامش الحياة والوجود كأي كائن آخر، وقديماً قالوا إن الإنسان حيوان سياسي.
أي أنه يختلف عن الحيوان في عقله الذي أكرمه الله تعالى به بما يجعله قادراً على التخطيط والتفكير وتنظيم حياته وحاضره ومستقبله، وعندما يفقد هذا الإنسان حريته ومشاركته في تدبير سياساته وشؤونه المختلفة يصبح مجرد حيوان يأكل ويشرب وينكح، هذا إن استطاع إلى ذلك سبيلاً وهنا نطرح سؤالنا الدائم: هل من حل أو علاج لهذا المرض المستشري، وهو مرض الاستبداد واحتكار السلطة الذي يعد هو نفسه السبب الرئيسي في عرقلة وتعثر نمو "الدولة" في الواقع العربي، لأنه حرمها (ويحرمها) حيوية التجدد ويمنع عنها أسباب التطور والنمو والارتقاء إلى مراحل أعلى؟!.. في الواقع لا يوجد لدى أحد ـ فرداً كان أم حزباً أم دولة ـ أي حل سحري لأزمة الاستبداد الشاملة التي تلف بظلالها السوداء الفضاء الأوسع من عالم الإسلام والمسلمين حالياًً.. ولا شك بأن للثقافة النقدية أهمية قصوى في تسليط الضوء على مكامن الخراب والدمار التي أنتجتها استراتيجيات الاستبداد في عالمنا العربي، في محاولةٍ منها لتقديم رؤية حقيقية عن الأوضاع المتخلفة السائدة عندنا مرتبطةً بتصور "سيء ـ ثقافي" ما للخروج من الأزمة المقيمة، كما أن للتربية العائلية والاجتماعية دوراً أساسياً في بناء الإنسان الحر السليم في بنيته التفكيرية والسلوكية.. ولكنَّ عمقَ الأزمة وضخامةَ سلبياتها، وأسسَ معالجتها لا ينطلق فقط من العائلة والثقافة والفرد والمجتمع ومؤسسات الدولة في عملية تثقيف وتربية ونهضة متوازية، وإنما أيضاً من خلال وجود نخبة سياسية عقلانية واعية تقود عمل وجهد كل أفراد المجتمع والأمة، بحيث يتوقف على نوعية وأخلاقية وعدالة وتوازن تلك النخب (وطبيعة معرفتها وخبرتها بواقع مجتمعاتها والبيئة الإقليمية والدولية التي تعمل فيها، وتقدمها في تطوير الصيغ وقواعد العمل التي تساعد على حل النزاعات المحتملة أو القائمة فيما بينها للحفاظ على أكبر قدر من التعاون والتفاهم).
× كاتب مصري - دكتوراه في الحقوق وخبير في القانون العام.
د. عادل عامر
النخب الحاكمة وحق المواطنة 1892