جاء موسم الأمطار بعد انتظار طال.. فرحت الأرض الشراقي لوقعه واهتزت طرباً.. الأرض تعشق وقع المطر, والبراعم تشق طريقها بين التجاويف المخضلة من أثره, وتشرئب أعناقها لتتأمل وجه الحياة على هذا الأرض.. فماذا ترى؟.
مآس تقطع لها القلوب على أرض الجنتين.. هناك في بيوت البشر يتسابق الجميع لرسم لوحة متجددة من معاناة الإنسان على هذه الأرض الطيبة.. في الأحياء التي لا يصلها الماء, عند نزول المطر يتقاطر أبناء الفقراء ويتدافعون على مساحات الميازيب ليغتسلوا "بعضهم لم يمس الماء شعره ربما لأسابيع".
جاء أحدهم بملابسه الداخلية, وكان أحذقهم, بيده قطعة صابون وأخذ يفرك جسده وشعره تحت الميزاب, هرع أخر لمنزله وعاد وبيده حفنة من صابون غسيل الملابس وبدأ يفرك الملابس المهترئة على جسده (يضرب عصفورين بحجر واحد).
وهناك على الحافة الأخرى يصطف آخرون وبأيديهم الأواني والبراميل من جميع الأحجام، يملأونها من ميازيب البيوت الكبيرة ويهرعون بها نحو منازلهم، حيث تتلقاهم الأمهات وتستقبلهم استقبال الفاتحين وتتناول من بين أيديهم تلك الآنية وتفرغها في براميل الماء الخاصة بالأسرة.. وعلى الأسطح تتناثر صور شتى.. امرأة افترشت بساط حجرات المنزل ونثرت عليها الصابون وانهمكت في فركها هي وزوجها وأطفالهم الصغار الذين أحالوا سطح المنزل لساحة استحمام جماعي.. لقد نست أنها مريضة بالكلى وعملها هذا سيرقدها على السرير لأسابيع.. لن تذهب للمستشفى لأنها لا تملك المال الكافي.. وعلى سطح منزل الجار الملاصق لهم يقوم شيخ مسن بالاستلقاء على سطح منزله الصغير العاري من السياج, ويمد يده بالدلو تحت ميزاب المنزل يملؤه بالماء ثم يناوله لزوجه المسنة لتصبه في خزان الماء الكبير الفارغ منذ أشهر ويكاد الصدأ يأكله.. وهكذا يستمرون في عمل مضن, يجتهدون في ملئه بهذه الطريقة طوال ساعات تساقط المطر.. وعلى سطح منزل ثالث ترى رب الأسرة يغترف بإناء صغير الماء من برك مخصوصة صممت على السطح لهذا الغرض ويصبه في خزانهم.. وإحدى النساء تقوم بغسل بطانيات الشتاء التي لم تغسل منذ بدء موسم البرد لتقوم بتخزينها للشتاء القادم.. فرصة ذهبية لغسل بطانيات الأسرة السبع، لا يمكنها شراء ماء لغسل هكذا عدد.. ثمنه يمثل ثروة بالنسبة لهم.
موسم يثير الشجن للمتأمل في حال الناس, موسم يرسم البهجة على خدود أوراق الأشجار ويرسم البؤس على وجوه الفقراء في مدينة فقيرة لأهم أسباب الحياة.
أحياء بأكملها في "تعز" لا تصلها مياه المشروع.. قبل أيام وأنا في طريقي للمنزل عائدة من وسط البلد, سألتني امرأة مسنة: هل جاءكم الماء؟.. قلت: نحن نعيش في حي لا يأتيه سوى ماء السماء.. تنهدت وقالت: لم يأتنا الماء منذ أربعة أشهر.
وفي ذلك اليوم الذي رسم فيه أبناء حارتنا هذه الصور المأساوية كانت شوارع المدينة تغرق بمياه الأمطار .. موسم الأمطار ينبئ كم هو كريم معنا هذا الرب، وكم هو عادل، يتساقط المطر على جميع الأحياء دون تفريق.. لا يمر موسم دون أن يرى المطر الجميع.. وتعز بالذات مدينة تكرم أهلها كونها جبلية, فمجاري السيل تمتلئ بالأمطار حتى لو لم يتساقط إلا على سفوح الجبال.. فأين تذهب هذه المياه؟.. من يستنزف المياه الجوفية ويترك علامات البؤس ترسم الأسى على الوجوه؟.
ثمة أحياء لا ينقطع عنها الماء إلا ليوم أو بضعة أيام وحارات يقتلها ببطء العيش الكئيب مع هذا الجفاف والعناء.. سعر حملة من الماء لتعبئة خزان ماء وسط, بلغ في بعض الحارات إلى (4000ريال).. الأسرة اليمنية لا تقل في المتوسط عن سبعة أفراد يعيشون براتب بالكاد يقيم أودهم من الرغيف الجاف وفواتير الكهرباء وأجرة المنزل.. وفوق هذا كله يتكبدون ثمن مياه الشرب، لأن الماء الذي يأتي من مشروع المياه لا يصلح للاستعمال الآدمي .
شعب يحيا تحت خط الإنسانية، شعب ثار ليعود إنساناً ويحيا كريماً كما أراد له الله أن يحيا.. ترى هل مازالت الأرض تفرح بموسم المطر في هذه البلاد, وهل مازال موسم الأمطار موسم رحمة؟ أم أن السماء تبكي حالنا مطراً؟!.
نبيلة الوليدي
صور من حياتنا!! 1688