في هذا الزمان الرخو يبقى السائب هو المتفشي، والإنفلات هو الذي يحدد مكونات الخوف وتبقى العلاقة بين الذات والوطن تكتنفها المرارة والوجع واللا مبالاة، بحيث يغرق الجميع في الظلام وتنتج قيم لا عهد لنا بها بفعل القهري ،ويغدو الفعل البائس هو المباح حيث لاشيء يمكنه أن يحقق هدفاً عاماً، فالكل مشغول بنفسه ويبحث عن ذاته ويسوق مشاريعه الخاصة ويغدو الزعيم مجرد حكاية عابرة وحنين إلى ما كان ورغبة في البقاء على ذات الجرح ومقاومة حياة ومستقبل.
هكذا نرى اللهاث وراء الألقاب نوعاً من الغرائبية، أو الفنتازيا حقاً، فالزعامة كأنها اليوم في السوق السوداء من السهولة بمكان الحصول عليها،وكأنها لم تكن ذات زمن نضال وعمل وإستلهام حياة وتمثل طموحات جماهير كما هو الحال (تيتو ونهرو وعبد الناصر وغاندي وماو وكاسترو)...الخ هكذا نرى إليها تميزاً واستثناءً حقيقياً في تحقيق أكبر قدر من القيم الخلاقة قبل المنجزات، لكنها اليوم بضاعة مزجاة تنبني على القهرية والإستحواذ والفعل القابل لكسر وطن، وهو أمر لم نره في تاريخ الزعامات التي كانت فعلاً ملهمة للبشرية، وأبطالاً صنعوا تاريخاً، لكنها في المقابل اليوم، تعبير عن أزمة وعي وثقافة وفقدان ضمير، حيث منتوج هذه الزعامة مجملاً هو تردي أوضاع وخراب وتخريب قيمي قبل المنجزات المادية..
هكذا نجد الفوضى سيدة الموقف وتصير العمالات هي الأقدر على تحريك أجندة المؤامرات، رأينا هذا لدى البيض بزعامة قابلة للإرتهان ونراه هنا في محلات البيع بالجملة والمفرق والسبب غياب مشروع استنهاضي قيمي يعير الوطن معنى وينتج مستوى من الطموح المعزز بقيم الولاء الوطني ،وليس بتهافت التهافت على مكاسب ذاتية ومصالح آنية.
وإذاً الفرق شاسع جداً بين زعامات تاريخية شامخة غادرت الحياة وهي(لا لي ولا عليا) وأنتجت قوة نضالية قدرت على الصمود والتحدي، وبين زعامات اليوم بكل ما فيها من مغالطات واستخفاف بالشعوب وما تراه قابلاً للتسويق في حالة من الوهم والإدعاء، هكذا يكشف الأول النضالي العميق زعامة المتأخر والإدعاء والباحث عن مكونات فردية وليس مكونات وطن وانتصار.
على هذا الأساس تغدو مسألة الزعامة اليوم مجرد ضحكة على طريق الربيع العربي ابتداءً من القائد (معمر) وليس انتهاءً ببشار (المدمر)، الجميع هنا إدعاء لا قبل للشعوب به، حيث يبدو الهزيل هو ما ينحتونه ويطلون على شعوبهم من خلاله ونسي هؤلاء أن الزعامة هنا هي الشعب القوة المجتمعية القادرة على التنوع والعطاء والتميز، وأن الزعيم الملهم والقائد الضرورة والمحنك والفذ هو الجماهير بسطوتها وصمودها وقوتها وتحديها لكل قوى التخندق ضد مصالح وطن.
ومهما ناورت زعامات التخلف وظنت بنفسها الظنون فإنها في المحصلة تدخل مرحلة إحباط ويأس حين يبدأ أول متزلف منافق يغادرها ويدير ظهره لها لتبقى في حالة شدوه مما يجري وتكتشف تسويق الوهم هذه البضاعة المزجاة إلى الزعامات من قوى التملق التي لها في كل المراحل قناع خاص بها تقدر على لبسه والمتاجرة بقضايا وطن وأحلام شعب، ونفهم أن الزعامات في المحصلة مجرد إيقاع سريع قابل للذوبان عند أول مشروع نهضوي للوطن يبرز من خلاله مدى القوة الوطنية في الإرتقاء بالطموح بعد أن كاد يتعثر بفعل رغبة السيطرة خارج منطوق الإيديولوجيا وخارج متطلبات الحياة، ليصاب الزعيم بحالة من الاغتراب حين لا يجد من ينافقه ويعمل على تضخيم الذات لديه ويرفعه مكاناً عليا من فراغ ومن عبثية المعنى. هكذا نرى اليوم واقع الحال إدعاءت لا تكف من أن تكون، ورغبة في قهر الآخر والسيطرة عليه وإن وصل الأمر إلى مستوى مصادرة أحلام البسطاء عبر أعمال تخريبية.. وإذاً نحن أمام حالاتية تعتري المستلب ومكون هيمنته وتفتح لديه شواغل التعلق بالآمر الناهي بطريقة ما يبحث عنها يبلورها من فكرة فرغبة فتنفيذ قد تبدأ من حالات متداعية وقد تنتهي على لاشيء.. وإذاً هي حالة استحواذ ورغبة تميز وتعالٍ واستثنائية قد تدفع إلى حماقات حين لا يجد الزعيم ما يعبر عن مكونه ويخفق في الوصول إلى مناطق نفوذ ألفها.
بهذا المعنى الجغراسياسية لزعامات اليوم لا تعني النضال والعصامية والتخلي عن الاستبداد وتقديم فكر وإيديولوجيا واستنهاض حياة وتجاوز احباطات واشتغال على مخزون الجماهير وما تمتلكه من قدرات وممكنات تحول كبيرة، هذا الزمن من الزعامات ولى وغادر، بقي الزعيم الراغب في التعالي والزعيم الباحث عن شهوة السلطة والمال والقوة، تباين كبير بين زعامات وزعامات بدأت قوية وانتهت ذاتية والمسألة غياب الروح الوطنية النضالية الواعية المدركة لمعنى الانتصار من أجل التاريخ وإنجاز تحولات نهضوية تبقى ملهماً للجماهير ورافدا لها.. الزعامة هنا ليست زعامة وهي في الماضي تحولات عميقة في مسار التاريخ يكشف هزال اليوم ويعري أدعيائه .
محمد اللوزي
الزعيم مجرد حكاية عابرة 1823