حددنا في مقال سابق أن الأيدلوجية الثورية تقوم على ثلاثة مبادئ ثوريه أساسيه على الأقل هي:
1- الحرية
2- السلمية
3- العدالة الاجتماعية
إلا أن مبدأ العدالة الاجتماعية هي أهم هذه المبادئ على الإطلاق بل هي أساس الفعل الثوري وما نقوله هنا يتفق تماما مع ما قلناه في تلك المقالة السابقة التي حددنا فيها توصيفنا للثورة بأنها ثورة الطبقة الوسطى واستبعدنا كل توصيف معارض له وفي هذه المقالة سنحاول إلقاء الضوء على هذا المبدأ لما له من أهمية.
ذلك أنه ووفق تصورنا الخاص للنظام الاقتصادي المعاصر فإننا نرى أن من الآثار الاقتصادية المترتبة على نشأة النظام الاقتصادي المعاصر الآتي:
1- تغيير دور الدولة في النشاط الاقتصادي
2- انتشار الشركات العالمية متعددة الجنسيات
حيث يرى بعض كتاب الاقتصاد أنه وفي ظل تطورات العولمة تتغير وظائف الحكومات وتفقد تدريجيا دورها ونفوذها المفترض ويتحول جزء منه لصالح الشركات المحلية أو الدولية إذ يتقلص نفوذ الدولة الوطنية كسلطة ومنتج على حد سواء وتتضاءل قدرتها على رسم وتنظيم السياسات الاقتصادية الوطنية والإشراف على تنفيذها ينشا اثر ذلك ما يسمى انحسار تحكم الدولة في الكثير من مصالحها السيادية.
وقد بنى هؤلاء الكتاب الاقتصاديين وجهة نظرهم على الأسس الآتيه:
1- صعوبة تحصيل الضرائب بسبب تحرر انتقال رؤوس الأموال وبسبب آلاف الفروع المتشرة للشركات متعددة الجنسيات في مختلف أنحاء العالم وما ينتج عن ذلك من سهولة التهرب من دفع الالتزامات الضريبة الذي يكاد أن يصبح تهرباً ضريبياً منظماً عن طريق التلاعب بالحسابات.
2- التبعات الناجمة من تحرر قطاع الخدمات المإلىة حيث تفقد البنوك المركزية خاصة في البلدان النامية والأقل نمواً قدراً من الرقابة على دخول وخروج الأموال التي تتم وفقاً لعمليات غاية في السرعة والبساطة من خلال التحويلات على شاشات الكمبيوتر مما يؤثر كثيراً على دور الحكومات في توجيه الخدمات المإلىة لصالح جهود التنمية أو التحكم فيها كما أن السلطات التقليدية للبنوك المركزية تتقلص أيضاً في تحديد أسعار الفائدة وأسعار الصرف والأوراق المإلىة.
3- لقد أصبح من الصعب على الحكومات تحديد أو التمسك بالأنظمة الضريبية أو الاستثمارية وبالسياسات المإلىة والنقدية التي تتلاءم مع متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية في بلدانها وانتقلت صلاحية ذلك إلى حد كبير إلى المتحكمين في تدفقات السلع ورؤوس الأموال من الشركات متعددة الجنسيات وإلى الهيئات الدولية المانحة التي ما برحت تمهد الطريق أمام تلك التطورات عبر التثبيت والتصحيح الهيكلي ما يعني نقص نفوذ الدولة على العديد من المسائل السيادية كالسياسات المإلىة والنقدية وأنظمة الاستثمار والتخلي عن التزاماتها الخدمية والاجتماعية.... الخ
ليقابله تزايد مضطرد لنفوذ الشركات متعددة الجنسيات التي تبحث دون كلل أو ملل عن أسواق وقنوات استثماريه وتسويقية جديدة لكل ما تنتجه من سلع وخدمات ومعلومات متخطيه حدود الدولة والسلطة والأنظمة بمختلف ألوانها واتجاهاتها وليصبح العالم أجمع بالنسبة إلىها سوقاً واسعاً دون حدود .
بينما يرى البعض الآخر من كتاب الاقتصاد أن النظام الاقتصادي العالمي الذي تشكل العولمة احد دعائمه الأساسية بحاجة لدولة من نوع خاص تفكك ولا تبني واصفاً إياها بالدولة الرخوة.
كما يضيف هذا الاتجاه أن هذه الشركات التي(لا دوله لها أو الشركة/ الدولة) تتزايد قدراتها ونفوذها تدريجياً في فرض أهدافها وسياستها على حساب الحكومات التي باتت تتراجع أدواتها وسلطاتها في تنظيم الاقتصاد والأسواق وتفقد يوما قدرتها على مراقبة حركة رؤوس الأموال أضافه إلى عجزها المتزايد عن مواجهة التقلبات والأزمات الاقتصادية في ضوء الانفتاح المنظم والمنتشر للأسواق العالمية لتحويل الدولة كما يقول البعض إلى جهاز لا يملك ولا يراقب ولا يوجه.
وفي ضوء ما سبق توضيحه من آراء لكتاب اقتصاديين فإن العلاقة بين حرية الشركات متعددة الجنسيات ومبدأ العدالة الاجتماعية هي علاقة عكسية كلما زادت حرية هذه الشركات في مجال الاستثمار وزادت الامتيازات التي تتمتع بها كلما أدى ذلك إلى تناقص العدالة الاجتماعية وصولا إلى درجة انهيار العدالة الاجتماعية .
إن انهيار مبدأ العدالة الاجتماعية وتراجعه أمام مبدأ الحرية التي تتمتع بها هذه الشركات نتج عنه خلل اجتماعي تمثل في انهيار إحدى أهم طبقات المجتمع الثلاث وهي الطبقة الوسطى_ وعلى وجه الخصوص في الدول النامية_ ومن الطبيعي أن يكون لهذا الانهيار رد فعل مساوي له في القوه ومضاد له في الاتجاه وقد تمثل هذا رد الفعل بالصورة الثورية في الدول النامية والصورة الاحتجاجية في الدول المتقدمة وهو رد فعل يناسب الحالة الاقتصادية والسياسة لكل فريق من هذه الدول ويتناسب في قوته مع قوة الفعل الذي جاء ردا عليه.
ومما سبق قوله يمكن إن نخرج بالنتائج الآتية:
1- أن هذه المعطيات تدعم توصيفنا لهذه الثورات بأنها ثورات الطبقة الوسطى وما هي إلا رد فعل لما تواجهه هذه الطبقة من معاناة ودفاعا عن كيانها من الانهيار.
2- من أهم الأسباب التي أدت إلى انهيار الطبقة الوسطى هو انهيار مبدأ العدالة الاجتماعية وقد اضر ذلك كثيرا بالوضع المجتمعي لهذه الطبقة وحقوقها فكان سبباً في اشتعال ثورات الربيع العربي في الدول النامية وحدوث الاحتجاجات في الدول المتقدمة.
3- إن التغييرات الجذرية في النظام الاقتصادي العالمي المعاصر وما نشأ عنها من فعل ورد فعل بين (حرية الشركات متعددة الجنسية _ ورد فعل أبناء الطبقة الوسطى المتمثل في ثورات الربيع العربي في الدول النامية أو الاحتجاجات في الدول المتقدمة) سيؤدي حتما إلى صياغة جديدة لمبدأ العدالة الاجتماعية وسيكون نتيجة ذلك هو ظهوره بصورة جديدة إيجابية ومتطورة في المستقبل.
4- إن الطبقة الوسطى لها مميزات ومكانه اجتماعية كبيرة لا يمكن إغفالها أو تجاهلها بحال من الأحوال ظهر ذلك واضحاً من خلال الشعارات الثورية التي أبرزت من خلالها مطالبها المشروعة وغلفتها في إطار من السلمية بل جعلت منه مبدأ مستقلاً قائماً بذاته .
د. ضياء العبسي
العدالة الاجتماعية 2652