صدر في السنوات القليلة الماضية عدد غير قليل من الكتب والمقالات التي تقدم فهما للقرآن والسنة يختلف عن الفهم الذي يقدمه الأزهر الشريف. عمد الأزهر الشريف في مواجهة ذلك إلى بيان أن ذلك "الفهم الجديد" إنما هو"فهم خاطئ" حيث أنه لا يقوم على أساس العلوم والمعارف الضرورية لفهم كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه الكريم.. يهدف هذا المقال إلى بيان أن الفرق بين الفقه الجديد والفقه القديم لا يعود, كما يتصور الأزهر الشريف, إلى "قصور" قاعدة العلوم والمعارف التي ينطلق منها الفقه الجديد وإنما إلى الاختلاف النوعي بين قاعدة العلوم والمعارف التي ينطلق منها الفهم الجديد وبين قاعدة العلوم والمعارف المستخدمة في الأزهر الشريف .
الفهم الجديد
صدر في السنوات القليلة الماضية عدد من المقالات, والكتب التي تقدم فهماً جديداً لكتاب الله وسنة نبيه الكريم، تصدرت هذه المقالات والكتب أسماء كثيرة بدءًا بجمال البنا, وانتهاء بمحمد خليفة, مرورًا بعبد الفتاح عساكر, وعلي عبد الجواد, وعبد العزيز الشربيني, وأحمد ماهر, ومحيي الدين عبد الغني، قدمت هذه الأسماء فهماً للكتاب والسنة يختلف اختلافاً جذرياً عن الفهم الذي يقدمه الأزهر الشريف. يظهر هذا الفهم في تناول المهندس/ محمد خليفة لسورة الكوثر، حيث قدم فهماً غير مسبوق لهذه السورة.
يظهر ذلك, كذلك, في تناول المستشار/ أحمد ماهر لآية "يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا عسى أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين".
يظهر ذلك, أيضا, في معالجة الربان عبد العزيز الشربيني لموضوع خلق حواء وآدم وذلك في مؤلفه الكبير "آيات رحمانية".يظهر هذا الفهم كذلك في عدم قبول أحاديث صحيحة لا شك في صحتها حيث وردت في أصح كتابين بعد كتاب الله سبحانه وتعالى وهما كتابا الإمام الأعظم البخاري والإمام الأعظم مسلم اللذان تلقتهما الأمة بالقبول، حيث تم رفض حديث رضاع الكبير, والقردة الزانية, والفئران اليهودية, والسحالي الفاسقة, والبراغيث الصالحة, ورجم الزاني المحصن, وقتل من لا يشهد بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله, وقتل من ارتد عن الإيمان بأن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله, وذلك على سبيل المثال لا الحصر.
يذهب هذا الفهم الجديد إلى سلامة ما قام به الأئمة العظام من ضرورة التأكد من صحة السند إلا أنه لا يكتفي بذلك حيث يذهب إلى ضرورة التأكد من صحة المتن أيضا.
مثال على ذلك, لا يقبل هذا الفهم حديث قتل الزاني المحصن حيث يختلف عما ورد في القرآن الكريم من جلد الزاني المحصن لا قتله, كما لا يقبل حديث قتل من لا يشهد بأن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله لمناقضته ما ورد في كتاب الله من أنه لا إرغام في الدين وأن من شاء أن يكفر فليكفر ومن شاء أن يؤمن فليؤمن يظهر هذا الفهم أيضا في رفض العديد من الأحكام الفقهية المستقرة في الفقه السني القديم.
يرفض هذا الفهم ما قرره الإمام الأعظم الشافعي من جواز أن يتزوج الأب ابنته من الزنا حيث إن "ماء الزنا هدر".. يذهب هذا الفهم كذلك إلى رفض ما استقر عليه الفقه السني القديم كذلك من جواز تدمير المدن التي تقاوم الجيوش الإسلامية التي تعمل على فتحها وجواز قتل الأسرى, أو استعبادهم, وسبي النساء واستعمالهن جنسياً أو استعبادهن وبيعهن في أسواق العبيد.
يرفض هذا الفهم كذلك ما استقر عليه الفقه السني القديم من أن عقد الزواج هو عقد إيجار أو تمليك يوجب على الزوج أن يقدم للزوجة المسكن, والملبس, والمأكل, والمشرب, وحليها, وجواهرها, وعبيدها وجواريها, إلا أنه يعفيه من أجر الطبيب أو ثمن الدواء عند مرضها أو ثمن الكفن عند موتها، يعود ذلك, كما يبين الفقه القديم, إلى أن مرض الزوجة لا يتيح له استعمال "محل الإيجار ",أي البضع, كما أن موتها هو إنهاء "بين" للعلاقة الإيجارية.
شكل هذا الفهم تحدياً كبيراً للفهم الذي يقدمه الأزهر الشريف لدين الله، أوقع هذا الفهم الجديد لكتاب الله وسنة نبيه الأزهر الشريف في حيرة. يمكن القول إن هذه الحيرة تعود إلى سببين اثنين رئيسيين.
الأول: أن هذا الفهم, على الرغم من وضعه مسلمات الفقه السني موضع التساؤل, إلا أنه صادر من داخل الفكر السني. الثاني: أنه صادر من "العامة" لا من "الخاصة".تتعلق النقطة الأولى بأن هذا الفهم الجديد ينطلق بوضوح تام من قاعدة سنيةـ لا يؤمن أصحاب هذا الفهم بأئمة معصومين, ولا بولاية الفقيه بحيث يمكن القول بأنهم يعبرون عن فكر شيعي, كما أنهم يؤمنون بلزوم اتباع السنة النبوية ثابتة الوقوع عن الرسول. حقيقة الأمر, يتشدد أصحاب الفقه الجديد في شروط "التثبت", إذ لا يشترطون صحة السند وحسب وإنما يشترطون صحة المتن أيضا.
تتعلق النقطة الثانية بأن أصحاب هذا الفقه الجديد يأتون جميعهم من خارج الأزهر الشريف، على حين كان عبد الفتاح عساكر موظفاً حكومياً في إحدى شركات القطاع العام, كان عبد العزيز الشربيني ضابطاً في البحرية المصرية, وعلى عبد الجواد مهندساً في سلاح الطيران المصري, وأحمد ماهر ضابطاً سابقاً في الجيش المصري ومحامياً في الوقت الحاضر, ومحمد خليفة مهندساً لنظم المعلومات.
لفهم أهمية هذا التطور علينا أن نتذكر أنه لم يحدث منذ أن أنشئ الأزهر - أي منذ ما يزيد على ألف عام - أن وضعت مسلمات الفقه السني موضع التساؤل. كما تبين مناهج الأزهر, بمنتهى الوضوح, لم يتغير شئ في الأزهر عبر أكثر من ألف عام.
علينا أن نتذكر كذلك أن الأزهر كان يسيطر سيطرة تامة على الحياة الثقافية في مصر. لم يكن علماء الأزهر رجال دين وحسب وإنما كانوا أيضاً رجال علم, وأدب,وسياسة, وتاريخ، حقيقة الأمر, لم يتخلَّ رجال الأزهر عن دورهم التاريخي في قيادة المجتمع المصري المدني إلا في منتصف القرن الماضي بعد مرور أكثر من مائة وخمسين عاماً على إنشاء نظام التعليم المدني المصري على يد محمد علي باشا، لم تكن هذه التطورات, بهذا الشكل, تمثل "فهما مختلفا" وحسب, أو وجهة نظر مختلفة وحسب, وإنما كانت تمثل تطلع "العامة" إلى انتزاع آخر ما تبقى في أيدي رجال الأزهر الشريف - أي العلم الديني، وهو ما لا يمكن أن يسمح به الأزهر الشريف.
عمد الأزهر الشريف في مواجهة هذه التطورات إلى نشر فكرة أنهم هم وحدهم "المختصون" بفهم القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وأن على "العامة" السعي في فهم ما يقولونه هم لا ما يقوله الله سبحانه وتعالى. يلزم الإقرار, في حقيقة الأمر, بأن علماءنا الأجلاء في الأزهر الشريف قد نجحوا نجاحا باهرًا في إقناع عموم الناس في مصر بأن لا أحد سواهم يستطيع أن "يفهم" كتاب الله بنفسه.
وبين علماؤنا أن فهم القرآن الكريم "فهماً صحيحاً" يحتاج إلى التمكن من عدد كبير من العلوم يستبعد معرفة "العامة" بها.
مثال على ذلك, نحو اللغة العربية وصرفها, وأسباب النزول, والناسخ والمنسوخ, والأحاديث النبوية, وعلم مختلف الحديث, وعلم الرجال, وأيام العرب, والعديد غيرها، بين علماؤنا, كذلك, لزوم تحصيل هذه العلوم على أيدي شيوخ مشهود لهم بالعلم, وحسن النية, ورجاحة العقل, وقوة الذاكرة, وصواب الرأي, أي ضرورة تحصيل هذه العلوم على أيدي علمائنا الأجلاء في الأزهر الشريف.
يعود ذلك إلى أن أخذ "العلم" من الكتب, كما بينوا, ما هو إلا أخذ علم من "الصحف" أي "تصحيف", وفي ذلك ما فيه من عثرات يلزم تجنبها وبالتالي تجنبه، باختصار, يحتاج فهم "كتاب الله" إلى قدرات لا تتوفر إلا لعلمائنا الأجلاء بالأزهر الشريف. أشار الفقهاء الجدد, كذلك, إلى ما هو أهم من ذلك كثير, أي إلى ما هو أهم من كل هذه العلوم والمعارف، يتعلق الأمر هنا بما نعرفه الآن عن التغير النوعي الذي طرأ على تفكير الجنس البشري، توضح الدراسات الحديثة في علم النفس الإدراكي أن الجنس البشري, كقاعدة عامة, كان يعاني من سيطرة الحس على الإدراك مع ما يعنيه ذلك من العجز عن إدراك التناقض, واقتصار مصادر المعرفة على المشاهدة والإخبار, والعجز عن استخدام العمليات العقلية العليا كالاستنتاج, والاستقراء, وبالتالي العجز عن تطوير تصورات شخصية عن الواقع, ومن ثم العجز عن تقييم التصورات المجتمعية عن الواقع, فضلا عن سيطرة النظرة الجزئية, والعجز الكامل والمطبق عن إدراك أن الآخر لا يمكن أن يرى ما أراه أنا حيث إننا حتى لو كنا ننظر إلى نفس الشئ فإن كلا منا ينظر إليه من وجهة نظر مختلفة. توضح الدراسات الحديثة في علم النفس الإدراكي أنه بدأ يتوافر لدينا الآن نوع جديد من التفكير لا يعاني من أي من هذه المعوقات.
يبين علم النفس الإدراكي, بهذا الشكل, كيف تختلف علوم الثقافات الحديثة عن علوم الثقافات القديمة، على حين تتميز طريقة الثقافات القديمة في الحصول على المعلومات بأربع صفات أساسية, هي "النقل" و "عدم التحقق", و"النظرة الجزئية", و"أحادية المنهج", تتميز طريقة الثقافات القديمة في عرض المعلومات بخمس خصائص رئيسية هي: "عدم التصريح بالأسس التي يقوم عليها العمل", و"الغموض", و"الاستطراد", و"التشتيت", و"العشوائية"، يفسر علم النفس الإدراكي, بهذا الشكل, الصعوبة المطلقة التي يعانيها أبناء الثقافات الحديثة في فهم علوم الثقافات القديمة، بشكل أكثر تحديداً, يساعدنا علم النفس الإدراكي على فهم الصعوبة المطلقة التي يلاقيها أبناء وبنات المجتمع المصري الذين تلقوا تعليماً حديثاً في فهم "العلوم" التي يقوم الأزهر الشريف بتدريسها.
"العلوم" التي يقوم الأزهر الشريف بتدريسها هي "علوم قديمة" من إنتاج "نظام تفكير قديم".يثير الفقهاء الجدد بهذا الشكل قضية جوهرية على مستوى عال من الأهمية.
إذا كان علماء الأزهر الشريف قد بينوا أن هناك علوما يلزم تحصيلها من أجل فهم دين الله فهما صحيحا, فإن الفقهاء الجدد قد بينوا, أولا: أن الأزهر الشريف لا يقدم "فهم الأزهر الشريف لدين الله" وإنما يقدم "فهم سلف الأمة لدين الله".
وثانيا: أن مجموعة العلوم والمعارف التي يستخدمها الأزهر الشريف في فهم "فهم سلف الأمة" إنما هي "علوم ومعارف قديمة" تمثل تصورات الثقافات القديمة عن العالم الذي نعيش فيه.
القضية, إذن, هي ما إذا كان فهم سلف الأمة يلزم أمة الإسلام باتباعه إلى يوم أن يقبض الله الأرض ومن عليها أم أنه يلزم سلف الأمة وحسب.
تثير هذه القضية قضية أخرى تتعلق بما إذا كان فهم سلف الأمة هو الفهم الصحيح الوحيد الممكن وأن أي فهم سواه هو فهم خاطئ. تثير هذه القضية قضية ثالثة تتعلق بما إذا كان سلف الأمة قد أعفوا الأمة من محاولة فهم دين الله حيث إنهم قد قاموا بواجب فهمه وتقديمه لأمة الإسلام الذين لا يتوجب عليهم الآن سوى اتباعه، بصورة بسيطة للغاية, يمكن صياغة القضية بالشكل التالي: هل من الصواب القول بأن كل ما علينا الآن أن نفعله هو "اتباع القرآن والسنة بفهم سلف الأمة"؟ هل هذا من الصواب؟ حقيقة الأمر, لم يكتف علماؤنا الأجلاء ببيان الضرر الواقع على الواحد منا إذا حاول أن يفهم دين الله بمفرده, بل بينوا خطرًا أشد يمكن أن يقع إذا حاول أحد العامة أن يخبر بقية العامة بما وصل إليه فهمه - أي خطر اتباع العامة لواحد منهم. كان الأمر, في حقيقة الأمر, أشبه ما يكون ببناء مفاعل نووي حيث يتوجب ترك المهمة بالكامل للمتخصصين وإلا حدث انفجار يودي بحياة الملايين. كان الأزهر الشريف, بهذا الشكل, يطلب من العامة أن يؤدي كل منا ما يخصه، كانت هذه هي المشكلة.
د. عادل عامر
الأزهر الشريف بين الفقه القديم والفقه الجديد 2334