حين كنا صغاراً ؛ كنا نلهوا ونرتع ونعبث ؛ إلا في مكان واحد.. قيل بأن الشيطان تسكنه ، مرت سنوات الطفولة والفتوة وشجرة الشيطان اللعينة تنمو وتكبر وتتضخم ،أوراقها مخضرة لا تعرف الإصفرار أو السقوط - خريفا وشتاءً - ، ظلالها وارفة داكنة مغرية للناظرين العابرين الذين لا يعلمون شيئاً عن شياطينها المخيفة والمهلكة لكل من يقترب منها .
صديقي أحمد أصابته نوبات من الحمى المميتة ، قيل وقتها بأن فزعه وهذيانه سببه تسلقه الشجرة الغريبة ، مازلت أتذكر صرخات واستغاثات ذلكم العفريت الناطق بفم ولسان صاحبي ، وكيف أنه في نهاية المطاف لم يغادر جسد أحمد ؟ فمن فرط ما تلاه الشيخ المداوي من آيات الله ، وكذا كثرة استخدامه لعصاه ويده الغليظة ؛ ظننت أنه سيرحل مذموماً محروقاً مدحوراً ! ومع ذلك ظل الشيطان في رأس صديقي مشترطاً لمبارحته فدية بالعملة الصعبة ، وتعيينه سفيراً أو ملحقاً ، ومذ تلك اللحظة التي سمعت فيها شروط الشيطان المذهلة ؛ لم أعد أفكر بشيء أكثر من الشجرة وقصص شياطينها !
حكايات وقصص لا تنتهي عند حادثة بعينها ، نسوة القرية يحدثن صغارهن عن ضحايا هذه الشجرة ، الرجال .. الشيوخ .. جميعهم يحذرون فتيانهم ، ينذرون قرابينهم ويعلقونها عند حواف جذعها الضخم ، الكل منشغل في أصل وفصل هذه اللعنة التي حلت عليهم ، البعض يعتبرها عقاباً من السماء، واصفاً إياها بشجرة الزقوم الغاوية لآدم وحواء ، آخرون يعتقدون أنها بذرة خبيثة حملتها الرياح أو الطيور أو الغزاة .
ولجت القرية العولمة واجتاحت بيوتها المتواضعة مقتنيات العصرنة والحداثة ، فالسطوح أجتاحها أطباق القنوات الفضائية ، وتلكم الأبدان الهزيلة المتعبة أصابتها جائحة الهواتف المزودة بكاميراتها الرقمية الناقلة لشهيق الإنسان وزفيره إلى بقاع المعمورة ، فكل ما أنتجته العولمة من تكنولوجيا مدهشة خارقة وجدت لها متسعاً في ثنايا الديار والأبصار وفي متناول الصغار وكأنها شيئاً مألوفاً لا صلة له بواقع مازال مسكوناً بخوفه وهواجسه المرعبة .
فباستثناء الرجال الكبار المذعورين من غضب الشيطان ، وجنده المتوثبين دوماً للفتك والتنكيل والزجر بكل إنسان أغرته ظلال شجرته أو أعجبه لونها الناضح خضرة ؛ كل صغار القرية وفتيانها يعبثون ويلهون ويرتعون ويموتون – أيضاً – عند حواف ظلالها وجذعها .
في أخر مرة زرت فيها القرية ؛ هالني ما رأيت ، فالشجرة اللعينة الضخمة لم تعد منتصبة سامقة مرعبة كما كان حالها في الزمن السالف ، سألت هلعاً ودهشة : ماذا حل بالشجرة ؟ وأين ذهب شياطينها ؟ ولماذا تركت في مكانها ولم يستفد من سيقانها وفروعها وورقها ، وحتى جذعها الداكن الجلف الذي توسد الجادة معيقاً سالكيها ؟ .
فتى يافع أجابني مزهواً متبختراً ربما بصنعة أترابه : لتكون عبرة ودرساً للخلق والشياطين ! فما من فرعون متغطرس ومتسلط ؛ يبقى حياً لا يموت ! ما من شيطان مارد وعابث ؛ إلا وخلفه مليون شيطان آدمي ! وما من شجرة يسكنها الخوف ؛ إلا ووراء هذا الوجل ألف قصة وحكاية مخيفة نسجها بنو البشر ! لقد غفل كبارنا حقيقة أن الشجاعة تقود الى النجوم وأن الخوف لن يهبهم حياة عزيزة؛ بل موتاً مخزياً .
قاومنا الموت بشجاعة ؛ فاستحقنا الحياة بكرامة ، فلم نلق باللائمة على جذور "كثة" عفنة ابتلعت فيض الودق ، لم نكتف بصلاة ودعاء كي تستجيب رحمة السماء ، فالله لا يغدق بركاته إلا على المؤمنين الأقوياء لا الضعفاء الجبناء ، فلكم كان دهشتنا حين اقتلعت فؤوسنا جذع الشجرة الغليظ من سديم الأرض بدلاً من وعثاء أسلافنا الكبار الذين اعتقدوا دهراً بأن مصيبتهم كامنة في أوردة وشرايين منتفخة عفنة شربت جل ماء نبعهم ؟ .
لم نمت مثلما كان يظن كبار قومنا ، فعلى العكس ماتت الشجرة وشياطينها ، مات خوفنا ومعه ذهبت خرافة الشجرة التي لا تموت ، لقد أصفرت وتحللت ومن ثم تهاوت كأية فسيلة أغتالها منطق العقل وقوة حجته قبل العطش ، إنها الآن في العرى وستبقى فيه كذكرى حزينة موجعة ، فمع أنها صارت حكاية من الماضي ؛ إلا أن بقائها هكذا سيكون موقظا فينا دوماً ؛ بأننا المنتصرون أبداً ، فما من نهاية تراجيدية تستحق ضحكنا وسخريتنا أكثر من خرافة شيطان رعديد لم يحتمل صرخاتنا ، وشجرة لعينة تهاوت وسقطت بمجرد قهر فتياننا لخوفهم !
لم أتمالك نفسي حيال كلام الفتى الغض ؛ فبصقت رضاب فمي نحو المكان الذي طالما ظل يسكنني كفزع دائب ، ومثلما فعل رفاقي العابرون مررت بكلتي قدمي على جذع ضخم قُطع من سافله ، وقبل أن أطلق تنهيدة غصة وحرقة على القرية وأهلها - الذين هلكوا أو عاشوا أو نذروا عمرهم قرباناً للشيطان وشجرة وقربانا لخلاصهما وعافيتهما – قلت للفتى : الشيطان هنا في رؤوسنا وشجرته في أعماق نفوسنا ، فليكن خلاصنا كلنا سرمدياً ، وليكن فعلكم فاتحة حياة لا خاتمة مأساة فقط.!
محمد علي محسن
حكاية من الماضي !! 2622