والضوء يرسم خارطته البنفسجية على ورق الشجر المغتسل بالندى, كانت "نجاة" تمزق ستار الليل البهيم وتركل رغباتها المتمردة التي دثرتها طيلة مراهقة ونصف عقل..
لوت ذراع ماض مظلم وألقته من شاهق, بينما مدت الشمس أسلاكها بين سفوح حيرتي ووهاد ذاكرتها, امتلأتُ غصة وأنا أرمق ثورة تومض من ثغر حاضرها قبل أن أمتطي صهوة فضولي وأكر في أعماقها أوقد جمرات الأمل التي طٌمِرَت برماد النسيان.
كانت نبضات الدفء في داخلها تزيح عني عناء الكر ورهبة المكان وكانت كرويات دمها تهدهدني وأنا أسافر فيها كأنني أمتطي الريح في طريقي إلى سدرة منتهاها, لكن, ثمة أحاسيس غريبة تخللت روحي وأنا أتلمسها من الداخل, أنا الذي لم أطأ أعماق امرأة من قبل ولم أكن أنوي فعل ذلك، غير أني ساعتها تأملت في تلك المساحات الشاسعة والمنحدرات النائمة في حضن الظل وهي تصافح شبكة الجسور المعلقة بالسماء, وجال ببالي وأنا أرتقي آفاقها العلوية أن أتصفح ذلك الألبوم الذي أتيت من أجله فألامس واحد من الأزرار المتراصة بعناية على جانبي المسير, لذلك, تركت يدي بطولها تمتد إلى ذلك الزر الحلزوني الذي يقف بمحاذاة حلمة الأذن, كنت أفعل ذلك مع جهاز الكاسيت حينما أود سماع معزوفة أم كلثوم " أنت عمري" عندما أخلو بنفسي وأجول في سماوات خيالي, غير أنني هذه المرة في أعلى قمة من الداخل فوق لوحة يميل لونها إلى لون القمح, هانئاً استلقيت بعد أن أدرت الزر باتجاه اليمين برفق. سال فوقي صوت نجاة من منبعه:
لأني ما توقعتك, ذُهلت حين وجدتك هنا, ذلك لأني كنت ألوذ بصمتي الذي عشت فيه وتعايشت معه. لكن, مادام وقد امتلأتُ بحضورك سأقص عليك ما كنت امتنعت عن إطلاقه:
توفت والدتي وتركت وحيدتها المدللة في مهب الضياع فتزوج أبي بامرأة أخرى تبتسم للنهار وتكلح عند الغروب وكان إخواني مرتبطين بمدارسهم صباحاً وباللهو مساءً, كان الجميع يتركونني في المنزل وحيدة يحاصرني الضجر ويزرع في مخيلتي وهماً متمرداً, سرعان ما لامسته بعض الصديقات اللاتي عملن بقانون حق الجوار وشغلن فراغي بحضور جرّني إلى سراديب الفوضى اللااخلاقية التي أوصلتني إلى تخوم الهلاك, كانت بوصلة مراهقتي تتحرك بحرية مطلقة, لذلك تأثرت بشيطان إحداهن, ذاك الذي كان أقوى من خط دفاعي المنهار, ليستدرجني إلى الخطيئة دون أن أشعر, وإنما شعرت بإبحاري دون شراع في يم المغامرات والمتعة, تمنّعت في البداية, ثم استحليت الأمر, لأمتهن معاكسة الرجال عبر الهاتف فأعيش كل يوم قصة حب جديدة, في كل قصة يسقط بطلها مضرجاً بخيباته ساعة أن يكتشف انشغالي بغيره.
كان غالبيتهم حين تلسعهم نيران غيابي يبكونني عشقاً وهياماً مما يزيدني حماساً للعبث بمشاعر الآخرين، وبالرغم من أن تعدد العلاقات وتزاحم المكالمات يقتل الحب الحقيقي لدى من يمارس فواحش الهاتف، إلا أنني مع قصص الحب الكاذبة التي كنت أصطنعها لكسب ود المتصلين وقعت في قصة حب حقيقية كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر انحرافي
في إحدى الليالي هاتفني شاب بالخطأ.. كان يبحث عن زميل له، غير أن مكالمته أخطأت طريقها لتستقر في كبدي، كرر اتصاله بعد أن أخبرتُه أن هذا ليس هاتف زميله الذي يبحث عنه فنهرته بكلمات قاسية بحجم إحساسي بالذنب الذي اقترفته منذ زمن موغل بالخطيئة، لكنه لم ينبس ببنت شفة، بل اكتفى بإغلاق سماعة الهاتف في وجهي، الذي أجبرني على الانحناء لفيض مشاعري المتدفقة والتي لا أعلم من أين أتت ولا كيف تواجدت بأعماقي؛ القاحلة بفعل التصحر العاطفي الذي أصابني نظير ممارستي غير السوية.
بقيت أتردد على مهاتفته بطريقة لم أعتدها من قبل، إذ منحه ذلك القدرة على التحكم بشراع مشاعري ليأخذني إلى دائرة نزواته الطائشة بعد أن أفقدني السيطرة على ذاتي. وبما أنني لم أمارس جريمة "الزيغ" من المنزل من قبل إلاّ أن وقع كلماته المعمولة بعناية فائقة كان قد أشعل فتيل رغباتي الكامنة، مما جعلني أقبل بالخروج معه والاختلاء بشياطينه المتعفرتة، حينها لم يكن حبه الذي توغلني قد ترك لي الفرصة كيما أحتاط لأنوثتي الضعيفة، فكانت رغبته المتوحشة قد رشحت بُعيد ولوجي داره الخالية إلاّ من صديقه الواثب على رغبة الافتراس وأمه ـ المتخفية ـ التي ترصد بوادر جريمة كانت قد رأتها في المنام.
رميت بجسدي على مخدعه المعد لاستقبالي، فطلب مني أن أخلع شرفي كيما يمرغه في وحل ممارساته القذرة، بيد أني رفضت الاستسلام له حتى لا يُعاقب غيابي بالحضور، فاستنجد بصديقه لتكبيل انكساري، توسلتهما بدموعي المغتسلة بالدم، غير أنهما أصرا على هتك أستاري، وقبل أن يقعا مني موقع السكين من الذبيحة هاجمتهما المرأة العجوز، فانتفضتُ نحو الباب كحمامة غادرت الموت، ملقية بنفسي في أحضان الضوء وقد عاهدت الله الذي وهب لي الحياة برؤيا ألقاها لعجوز في منامها أن لا أعود لما كنت عليه حتى أراه.
هذا كل ما جرى وشي من نزف الذاكرة فلا تعبس أيها الحلم, لعلي تواطأت معك أثناء اجتياح سراديبي الباطنة ولن أدعك ترتب انسحاباً تكتيكياً يدع لك أثراً قد يتخلق يوماً "ما" فيصبح كائناً انتهازياً يعبث بقلة حيلتي.
ضج بي المكان, أنا الجسد المعلق بالذاكرة, فوجدتني ووجهي نتدافع للخروج, رأيت منفذين أحدهما يلحق بدقات القلب والآخر يطل على كرة تسبح في بحيرة شاطئها يطل على الطين من شاهق, تدحرجت نحو البحيرة حتى علقت بتلك السفينة التي تأخذها الأمواج نحو الضوء, رأيت باباً مشرعاً نحو الفضاء, فاغراً جفنه وقادماً نحوي, ورأيت طفلاً يرتدي البياض نائماً بالضفة القريبة والفراشات تداعب براءته وترقب إبحاري, ألقيت عليهم تحية مرتبكة وأنا أتشبث بالسفينة التي تسير بفوضوية نحو الحافة, انتابتني حالة توجس مريبة وتراءت لي خارطة سقوطي.
رأيت سماء المكان ترخي جفنها وتحدق في العبور فأغمضت عيني وتركت قلبي يمسح المسافة الفاصلة بيني والارتطام, ليس سوى هنيهة حتى سمعت صوت نجاة تقول: وداعاً أريد أن أنام.
وقتها وجدتني أحلق في الفضاء بعدما اصطدمت السفينة بالحافة وقذفتني إليه.
almonef86@yahoo.com
منيف الهلالي
الطريق إلى الفخ..! 2436