نصف قرن من الزمن والثورة اليمنية 26سبتمبر 62م مازالت أهدافها ومبادئها مصلوبة على واجهات الصحف الرسمية، أسأل الآن ونحن نحتفي باليوبيل الذهبي : هل الثورة إيقاد شعلة وكرنفال عسكري وجماهيري في ميدان السبعين أم أن الثورة ذكرى في وجدان الناس وفي حياتهم ومعيشتهم واستقرارهم ؟.
خمسون سنة والثورة مجرد لجنة احتفالات وإنفاق وبذخ وبهرجة ومظاهر زائفة، أليس الأولى بنا أن نحتفي ونفرح ولكن بصنبورة مياه وبضوء الكهرباء وطريق معبد ومستشفى محترم يليق بآدميتنا وكرامتنا المنتهكة في كل موضع ومكان تذهب إليه؟ فما معنى الثورة على الإمام ونظامه الكهنوتي ألسلالي الطائفي المتخلف قبل خمسين سنة ؛ إذا كان واقع الحال يئن بكثير من الفروق والتمايز المجتمعي المقيت؟ وما معنى الثورة على نظام عائلي عسكري عصبوي قبلي فاسد؛ إذا كنا سنأتي بنظام عصبوي جهوي مناطقي عسكري متخلف؟.
البعض يحدثك قائلاً: ها هي الرئاسة والحكومة بيد الجنوبيين؛ فأرونا ماذا أنتم فاعلون؟ لكأن المسألة ليس إلا إزاحة رئيس من سنحان وأقاربه وتنصيب رئيس من دثينة وجماعته ! مجرد ذهاب صالح من دار الرئاسة ومحمد صالح من القوات الجوية وعلي الشاطر من التوجيه وعمار واحمد ويحيى ومقوله ومعياد والانسي وغيرهم من النافذين المقربين من صانع القرار ؛ ومجيء عبد ربه إلى الرئاسة وإحلال جُميع محل عمار والأحمدي مكان الآنسي والطاهري محل مقوله وجلال موضع أحمد واللهجة البدوية بدل اللهجة الصنعانية ووووالخ .
ثورة فبراير 2011م لم تكن إلا ثورة أكبر وأعظم من أن تبتسر في هكذا فهم وتقاسم ضيق للسلطة والنفوذ، فثورة الشباب أعتقد أنها صنيعة حاجة ماسة للتغيير الحقيقي، وعندما نقول التغيير الحقيقي؛ فلأننا ندرك ونعلم بان غاية هذه الثورة لم تكن قط كسابقها من الثورات والانتفاضات والانقلابات والصراعات التي شهدتها اليمن خلال مرحلة تاريخية تالية لثورتي سبتمبر وأكتوبر .
نعم ؛ إنها ثورة لإزاحة ما رسب في ذاكرتنا وحياتنا، ثورة لتغيير إرث ثقيل من الأخطاء والإخفاقات والضيم والإقصاء والتهميش والعبث والنهب والهيمنة وغيرها من الأشياء التي رسخت في سلوكنا وإعلامنا ووطننا ووحدتنا وإدارتنا وخطابنا وديمقراطيتنا وثقافتنا وتعليمنا ودولتنا وتاريخنا وأدت بنا جميعاً إلى الثورة الشعبية على النظام العائلي القبلي العسكري .
وإذا كان واقع الحال بهذه الصورة المشوهة حينا والقاتمة والبائسة حيناً أخر؛ فإن النظام الجديد حري به فهم طبيعة المتغيرات المجتمعية والوطنية والدولية الحاصلة في هذه البلاد ومحيطها الإقليمي والعولمي .
إننا اليوم معنيون برسم ملامح النظام السياسي القادم؛ كي لا نجد أنفسنا في نهاية المطاف نكرر الخطأ الفادح والفظيع الذي رزحنا لوطأته ردحاً طويلاً، وقادنا بالمحصلة إلى هذه النهاية المُمزِّقة لنسيج المجتمع الواحد، ولدولته ووحدته وتعايشه ووئامه، والمقوضة – أيضاً- لكل سبل النهضة والاستقرار والعدالة والرخاء والازدهار .
ما من ثورة على ظهر المعمورة؛ إلا وهدفها التغيير الايجابي لمجمل الحالة السلبية الناتجة عن سوء إدارة البلاد، لذا يمكن القول بأن ثورة فبراير لم يكن هدفها فقط إزاحة رئيس النظام ورموزه وأقاربه وإحلال بدلا عنهم رئيس ورموزه ومعارفه؛ بل هدف هذه الثورة التغيير كلياً ولمجمل الوضعية القائمة الناتجة عن نصف قرن من الصراع العنيف على السلطة ومن الهيمنة والاستئثار والاحتراب الأهلي والقبلي والطائفي والمناطقي والجهوي .
شخصياً ليست لدي مشكلة مع أن يكون هذا الوزير أو المسئول من الشمال أو الجنوب، أن يكون الرئيس من سنحان أو دثينة، أن يكون رئيس الحكومة من حضرموت أو عدن أو تعز، أن تكون ذكرى الثورة فضية أو ذهبية أو يوبيلية .
فالمهم وفق تصوري هو أن الرئاسة والحكومة والوزارة جميعها في خدمة المواطن والوطن، كما وأن الثورة تعني لشخصي تغيير الصورة النمطية السائدة بحيث يحق الحق، ويسود العدل والمساواة، وتحترم كرامة الإنسان وحريته، ويتعايش فيه جميع اليمنيين ويتشاركون مهمة بناء ونهضة وطنهم، كما وتصير المواطنة المتساوية ومعيار الكفاءة والنزاهة وغيرها من المفاهيم العصرية المؤصلة للدولة المدنية الحديثة ؛ هي الغاية الأسمى والأنبل .
ولأن السلطة والثورة هما هكذا بمفهومي المتواضع والمثالي ؛ فإنني أنصح الرئاسة والحكومة ومن في فلكهما بأن يوقفا هذه المظاهر الزائفة والمضللة والمرهقة لخزينة بلد يصنف في قائمة أفقر عشر دول، فمثل هذه الكرنفالات الرسمية والعسكرية لطالما اقترنت مظاهرها الكاذبة بنظام فاسد لا يرى في شعبه وجيشه سوى كتائب مستعرضة لفخامته وأيادٍ مصفقة لخطبه .
لا نريد خطباً وشعارات واحتفالات مترفة ومكلفة، لتختفي إضاءة الرئيس من واجهات الصحف الرسمية، ليتوقف النفاق والابتذال والتضليل والعبث الحاصل للمال والإنسان والوظيفة، ليذهب ريع هذه المظاهر إلى التنمية والمعيشة والخدمات، لنحتفي بأعياد الثورات والاستقلال والوحدة بافتتاح مدرسة في تهامة، وبسفلتة طريق في جبال ريمة وصعدة، وبمستشفى تخصصي حكومي في صنعاء أو عدن، وبمحطة كهرباء في الجوف أو المهرة .
هذه المظاهر ينبغي وقفها إجلالاً واحتراماً لشهداء وثوار سبتمبر وأكتوبر وفبراير، فما من مناسبة وطنية تضاهي فرحة مواطن بمدرسة أو خدمة أو زيادة معاش، دعكم مما فعله النظام السابق ومن مظاهرة الخادعة المزيفة لواقع يرفل بكل مظاهر الفقر والبؤس ! ليكن احتفاؤنا بذكرى الثورتين والوحدة نابعاً ومستمداً من حلمنا وطموحنا وفرحتنا بثورة الشعب التي لم ولن تكون إلا ثورة مغايرة لكل ما ساد ورسب وتوطن في حياتنا وثوراتنا وعقولنا ووجداننا وإعلامنا وتاريخنا ووو...
محمد علي محسن
ثورة وسلطة ومظاهر زائفة !! 2366