هي.. والعكاز في يدها اليمنى, تحدب آخره, وذاك المدى الذي يجمع بين إنفصاله عن شجرة الرمان التي ما عادت هناك وتلك الصورة الأسطورية التي تمثلها تجاعيد وجه الربيع..
قالت وتأبطت عكازها:
كنت ألتحف البؤس في كوخي البعيد, متدثرة بسكونٍ قارص, حتى أتى رجع ثورتكم فزلزل مرقدي, وأشعل فتيل الأمل الذي خلته مات في أعماقي أو يكاد.
رجعٌ قدّ صمت الكوخ صداه, فانبرت روحي تصافح مقدم الفجر الجديد وتنازع الساحات ضوءه, بيد أن الشمس حين لاحت وأضحت كل الدروب المغتصبة تؤدي إلى المنصات, تدحرجت أحلامنا نحو الريح, والتصق يسيرها بعمامة ذلك الشيخ القبلي الذي ما أن تمترس خلف نظارته السوداء صارخاً: " نحن نعاني كما تعانون" حتى أسقط بقايا حلمنا, وأرسب لهيبا فوق كف الغيب ما تزال الأيام تتلظى بجحيمه حتى تنتفض الأرض وتلفظ رفات أمجادهم.
أقبلتُ تائهة الخُطى أستنجد النور المُخبأ فيّٰ كي يمررني خلسة في زحمة الغازات على تلك المساحة السرمدية التي فيها كعبة الثورة، وهناك وجدت في صدر المكان رجالٌ كلما حانت صلاة توضأوا بدمائهم وولوا وجوههم شطر الزحف يرجون الخلاص بإحدى الحسنيين، بينما بالقرب منهم تناسلت الخيام, تكاثرت اللحاء, تسابقت الأقدام صعودا إلى مكبرات الصوت, تزاحم المتبرئون من رجس النظام السابق على أبواب التوبة, وقف الأب موزعاً صكوك الغفران ومبشرا بالكرسي وبالحوريات البيض اللاتي ينتظرن بشوق في خزانات البنك المركزي وبين يدي المانحين وأصدقاء اليمن, تمترس البائد خلف عقال البعير فمنحه حصانة الأرض دون السماء, جثا الحبر على صفحات الغيم فاختنقت المفردات في حلق المدينة.
مازلت أسمع دبيب مسيرة الحياة مستنشقة للغازات التي امتلأت بها سماء جولة دار سلم ومازال هدير الشباب يدوي في الآفاق التي ترقبهم بدهشة وهم يزيحون الجليد من أمام قراصنة الربيع، بينما يتجهون إلى الهامش بصمت, لعل رب الفرقة أراد ذلك أو لعله رب الحصبة أو قد يكون ذلك نكاية برب السبعين الذي أمطرهم بوابلٍ من العنف.
يا إلهي..!
تعدد الأرباب هنا وباتت الغاية التي استنهضت سباتنا محصورة بين الكفر بأحد الأرباب والإيمان بالآخر..
لكن, هل تذهب كل تلك الدماء التي أُريقت هدراً..؟
يبدو أنها كذلك.
لعل تلك اليد الآثمة التي امتدت في الأمس إلى تضحيات الزبيري ورفاقه هي نفسها التي سعت للإبقاء على وريث العرش ومغتصبه كيما يعيثون فساداً بما لم تطاله آلتهم العسكرية المتوحشة, وهي نفسها التي كلما نفضنا غبار القبيلة المقيتة عن كاهلنا باغتتنا بريحٍ صرصرٍ عاتية تقض مضجعنا وتدفننا تحت رمال الجهل والتخلف والرجعية مرة أخرى.
إننا نرى مخالبها بين ظهرانينا لكننا ـ كرهاً ـ نغض الطرف..!!
هل جبُنّا إلى هذا الحد..؟ أم أن تلك اليد التي ارتكبت رهقاً أكبر من قدرتنا على بترها ولن يقدر عليها سوى أولئك الذين يتربصون بها كما تتربص بهم.
لكن، أي تربص ذاك الذي تهتز معه البطون وتتزاحم حوله الإستفهامات التي ـ قسراً ـ تقذفنا إلى ضفة الصمت..؟
في الحقيقة, كلاهما يتربصان بنا وبثوراتنا وبالأمل الذي أومض بريقه من هناك.. من تلك المدينة التي يقف "السلطان" متلصصاً على جناحها الأزرق, غير أننا لا ندرك ذلك!
وحدها الأيام كفيلة بتعرية حماقاتنا وتواطؤنا المُعيب مع دعاة الرجعية والتخلف وعتاولة الفساد, ووحدي لا بد أن أصبح ريحاً وأغادر فوضاكم إلى كوخي المغتصب, تاركةً تلك السواعد المغتالة, في حضرة وطن مثخن برائحة الموت وأشلاء الأبرياء وتلك الأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة التي تأكل ما تبقّى من الجسد والحلم المسروق.
لا لأني أميل إلى كفة ذلك المحتال الذي صارت تلاحقه اللعنات حتى أصبح هذيانه يتعب من حوله؛ إذ لا يكف - بعدما نهب كل شيء - عن نفث سمومه في ذلك الجسد المترنح حد السقوط, ولكن, لأني ما عدت أطيق تدجين الثورة وإحراق تلك الخرائط النهضوية التي رُسمت بالدم القاني واستبدالها بأخرى مقاساتها مغايرة كما حبرها.
كنت قريباً من فمها.. مذهول سألتها:
لماذا كل هذا التشاؤم وقد استنهضتك تلك الرياح التي قذفت بذلك "الزعيم" خارج دائرة التسلط، فكان لك وللجماهير التي زحفت إلى الساحات مبتغاكم..؟
أجابت: ذلك أن اللون الأحمر مازال جالساً على مسافة بعيدة من مآسينا قريبة من...
تركتُ تلابيب الصمت التي كنت متشبثاً بها وأمسكت بحروفي الكبريتية المشتعلة.. سألتُ وكان حتماً علي أن أسأل: أين هي تلك المعجزات الخارقة التي كان يتحدث عنها نبي الثورة الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه..؟
أجابت: دعك من هذا الهراء الذي جلب لنا البؤس والنكسة ودعني التفت إلى ذاتي التي انشغلتً عنها..!!
إذاً ماذا عن زوجك الذي سجدة المصادفة على مآقيه النائمة..؟
زوجي.. عبد الرب.. أطال الله عمره وشواربه.. ذلك القدر المفقوء.. لقد زوجوني به ـ لفرط ـ احتياجهم للعبة لعينة, فهجرني منذ الوهلة الأولى لزواجنا وبدأ يلفلف أنفاسي وناسي وتلك العصي التي جمعتها منذ بزوغ فجر ثورتنا الأولى ليحملها على ظهور "الحمير" ويرسلها إلى "الجلوب". لعله شطط الدنيا راوده الانفصال عني والاستقرار في كنف الرذيلة.. تُرى هل ستصبح نبوءتي واقعاً مأساويا تنتصب بعدها مقصلة التأريخ لتشطر قلبي عن قلبي وتبتر بقاياي عني لترميها في مهب الشرق الأوسط الجديد عبارة عن قطع صغيرة لا روح لها ولا نبض.. تعافها المساحات وتنفر منها الأمهات.
يا إلهي ماذا قلت وبماذا هذيت..؟
لعلك استدرجتني إلى مأتمي..! مالي وللشقاء الذي تجرني إليه..! حسبي أنني أحب زوجي وأهديه قلبي وأشواقي وحنيني، وإن كان يصلي واقفاً، مازلت أمنيني تلك الضمة الملتهبة التي ستسرج آفاقي الكسيفة وتسد في وجه الريح شرفة كوخي كي يستريح من الضجيج محرابي.
شاقٌ هو الفراق، لكن، علينا أن نتدرب على النسيان لنستطيع الاستعداد للفصول المقبلة، لذا عليك أن تتنحى عن طريقي، سأغادرك بحب إلى كوخي النائم في حضن المساء علِّ أراك في ربيع آخر أكثر نظارة وبهجة – ربيع كلما بسمت ساحاته بكى الغمام ومتى تحققت أحلامه غنى الحمام وجالت دموع الفرح في وجنات النهار وفاح نسيمه العاطر في الآفاق منتشياً يصافح الضوء ويقبَل ثغر الغد المشرق, ربيع تحيك الأجيال من رونقه البهي عباءة منظومته الحاكمة كيما تغطي ذلك الجسد العاري الذي تآكل من الداخل.
فتحتُ نوافذ صدري علّ نسمة ربيع ضالة تأوي إليّٰ غير أن ثاني أوكسيد ثورتهم يغطي سماء المكان، أستنشقت ما يسد رمق رئتي- وبألم موجع أخذتُ وضع الابتسام وتظاهرت بترتيب أوراقي المنزعجة من الغياب.
منيف الهلالي
قراصنة الربيع 2485