اتصال الروح بالله جل في علاه أمر حتمي وأزلي, تقتضيه الطبيعة الأولى للتكوين البشري " ونفخ فيه من روحه "..
يسير الإنسان على الأرض مادة تصدم بمادة, وأما روحه فتحلق في فضاءات العلو, تتزلف في محراب بارئها تتنسم منه عبير الود, تدركها في لطائفه العظيمة التي تلامسها صباح مساء ..
علاقة أبدية سرمدية تحياها الأرواح مع الملكوت الأعلى, وسواء شعرنا بذلك أم لم نشعر, فهذا لا ينفي وجود الاتصال.. لكنا نحيا متألمين, تلفنا الوحشة, وتكتنف نفوسنا كآبات شتى, وتظلم البصيرة عند اشتداد الكرب, ويضعف إحساسنا بهذا التواصل الخفي بين الروح ورب السماء.. نتعذب ونشقى في لهاثنا خلف شهوات النفس ورغباتها, ونبذل الكثير من الجهد سعياً وراء سراب السعادة المحسوسة وننهمك بجمع الأشياء.. وندمن الألم!!.
كلما نصبو إليه أضحى أشياء.. صرنا " نشييء " القيم والمعاني, وحتى" شيّئنا " متعة الروح التي لا تدرك بالمحسوس حيث لها اتصال بالعالم العلوي اللطيف الجوهري, والذي هو أسمى من كافة مسمياتنا وأشيائنا الملموسة..
يتعب الإنسان كثيراً بحثا عن سعادته المنشودة, ويضل الكثيرون في مسالك الدنيا, ويستمرون في كدحهم, ويرهقهم ركضهم وراء الأشياء.. ذلك هو الضلال البعيد والخسران المبين "الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا"..
من علامات قرب الساعة " تقارب الزمان " ونحن نكرر -دون فهم عميق -عبارة " عصر السرعة" ولا نقف ملياً أمامها نتدبر ما ورائها..
ها قد مرت سنوات عمرك الأخيرة سريعاً, ماذا حصدت خلالها, ألا تحتاج لوقفة متأملة أمام المرآة لترى كيف رسم الزمن على وجهك خطوطاً تنبئك بالخطب؟!.. ثم انظر إلى رف الأدوية بجوار المرآة..آه ..لقد ألمّت بجسدك أوجاع شتى لم تكن تعرفها من قبل, وهاهم الصغار يكبرون.. ربما قد صرت جداً, وشعرات بيضاء كثيرة غزت مفرقك ومات بعض رفاق طفولتك وأصحاب الشباب مات بعضهم.. ومازلت تلهث وتلهث!!..
أيها الإنسان قف قليلاً واسأل نفسك: وراء ماذا تلهثين؟!.. كن شجاعاً وأخرج نفسك, حاكمها بصدق.. وتجرد لتضعها في ميزان السماء, ما ثقلها في كفة رضوان الله؟..
ثم عد وتأمل قسمات وجهك, بماذا تخبرك خطوط وجهك؟.. هل رسم الزمان على وجهك صورة تسرك إن نظرت لها؟ هل ثمة ملمح بائس على وجهك؟ لماذا؟..
ربما سيفجعك رؤية ملمح فاجر.. ملمح مرعب.. أصبحت نظراتك تشبه نظرات الذئب الجائع والكلب المسعور.. وانظر لأذنيك, وذقنك, وحدود وجهك, سمة متذئبة.. يا للمسكين!!.. لقد تشوهت كثيراً من الداخل حتى ظهر ذلك جلياً في وجهك "سيماهم في وجوههم "..
رويدك لا تهرب وأبشر, فثمة مساحة واسعة بين الروح والسماء.. فسيحة بمدى رحمة الله وانتظاره لك لتعود إليه, وتتصل بروحك الشفافة وذاتك الطيبة وترجع إلى فطرتك السوية, فيفرح بك أشد من فرحة الناجي من الموت بعدما ظنه متحققاً.. "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم.. وأنيبوا إلى ربكم واسلموا له ".. وتعود إنساناً حقيقياً متصلاً بربك مستسلماً منيباً إليه.. وتشبع حقاً وترتوي فعلاً من شعور السعادة الذي فقدته دهراً.
نبيلة الوليدي
أشواق الروح .. 2053