ذات زمن استبدادي رجعي كهنوتي وزمن أغبر عاشه الشعب في دياجير الظلمات يحلم ببصيص نور ويبحث عن ذاته وهويته الحضارية وفي زمن ما قبل الثورة اليمنية الذي جعل الوطن سجناً كبيراً ومأوى لكل ما هو تعب ووباء وجهل. لم يكن ثمة ما يعيد إلى الوطن كيانه ويفتح نافذة يطل منها الصباح بشمسه. وذات زمن كان فيه الشمال حزيناً وشاحباً متضجراً أو لم يكن ليجد ما يرتب حلمه ويغري بالإصرار على الحياة. في ذلك الزمن الما قبل الثورة اليمنية لم يكن سوى (الجنوب) الذي فتح ذراعيه للأحرار من المناضلين، فكان السند القوي والمدد الذي لا ينقطع ومنهلاً عذباً لكل من ضاق به العيش ورفض الهوان. وكان الجنوب جنوباً يحتفي بإخوته من الشمال يمنحهم الثقة بالغد يرى فيهم القوة الحقيقية لتجسيد الوحدة الوطنية وعبر في زمن ما قبل الثورة عن حجم وفائه لإخوته من الشمال ومقدار حبه لجغرافيا الوطن وتضاريس الروح وإيقاعات النغم وأصالة الانتماء، هكذا كان الجنوب مستقر مكان لإخوته من الشمال ومنطلقاً للثورة وتكوينات الزمن الجديد وعبر في حينها عن عظمة الإنسان وهو يناضل من أجل كسر طوق العزلة ويستجمع كل قواه للانتصار على الألم،على الطغيان، على من كانوا يتمادون في غيهم ويصيبون الشعب بالجدري والجذام والحصبة والتيفود وكل أمراض التخلف.
وكان الجنوب القوة الفاعلة التي عبرت عن مدى إيمان الإنسان بالوطن يحتفي بنفسه ويفرح بمستقبله. هكذا كان التعاضد والتلاحم دونما من أو أذى قدر ما كان الإخوة في الجنوب يرونه واجباً وطنياً مقدساً ودوراً مهماً في حياة كل الوطن. هكذا التاريخ يستنطق نفسه حين نتمعنه ونقترب منه ونراه بنقاء سريرة. فنجده معبراً عن معنى الانصهار في الهوية الواحدة. وذلك ما كان مبعث قوة واعتزاز وفخر كل اليمانين. لما قدمه الجنوب للشمال من معاني التوحد وما منحه لإخوته من مشاعر فياضة أذهلت الإمامة والاستعمار وعجز كل المتآمرين على الوطن حينها من عمل شيء يوقف هذا الأخوي وهذا التعاضد الذي شكل منطلقاً مهماً لقيام ثورة (سبتمبر وأكتوبر) ووجد الشعب نفسه في هذا التلاحم أنموذجاً غير عادي في تكوينات الزمن الجديد وفي الانطلاق برحابة الرؤيا إلى العصر بإيقاع اليمن أرضاً وإنساناً. من هذا المنطلق كان الإيمان بالوحدة الوطنية عميقاً وكانت الثورة اليمنية في الشمال والجنوب حكاية شعب ومسيرة وطن عبر عنها الشعراء وأتقن تلحينها الفنانون وأجاد عزفها الموسيقيون،ورسمتها ريشة التشكيليين،وعمقتها رابطة الأخوة ومشترك التضحية وقوة المبادئ. بهذا المعنى نحن نلقي بالاً للتاريخ، للثورة اليمنية 26سبتمبر و14أكتوبر في احتفائنا بها،بما تجود علينا من فيض إحساس ومعاني رائعة خلدها الشعب كله حين كان الجنوب للجميع فيما الشمال منغلق حد القطيعة مع العالم والقطيعة بين القرية والتي جوارها،عزلة شديدة،وظلمة حالكة وفقر مدقع. والجنوب يسخى، يقدم ما استطاع من الدعم والعون المادي والتضحية بالروح لتعلو راية الوطن خفاقة وتزدهر الحياة وتتلون بالخضرة والزرقة ويصير لها مجالات للتنمية والإبداع. بهكذا يفهم الشمال الجنوب ويلقي بالاً لعظمة دوره في تخليص الشمال من أعتى طغيان. وإذا فالعمق الأخوي سجله الجنوب الذي فرد ذراعية، واحتضن نضالاً، وآزر ثورة، وانتصر على طغيان. وماذا تعني الثورة في الشمال لو لم يكن الجنوب؟ بل ما تعني الحياة؟ وما هو المستقبل. لو لم يكن الجنوب للجميع والشمال للشماليين أمراض ووجع. ؟ وإذا نحن نقع على وطن له تشكلاته الجميلة ومعانيه النبيلة وله تحولات رائعة نبصرها حين نطل على معنى ثورة سبتمبر وأكتوبر وما بينهما من إندغام يستحيل الفصل بينهما مهما كثر المرابون وحاولوا طمس نضال ومغالطة تاريخ. فالحقيقة أن الجنوب انتصر للوطن،لجزء حيوي منه، انتمى أكثر إلى الشمال وجسد قبل الثورة أرقى معاني الوفاء والنبل حين كان الإنسان في الشمال لا زاد له ولامعين ولا ناصر بعد الله سوى أهله في الجنوب الذين باركوا الفعل الثوري وأغدقوا على كل من جاء إليهم برحابة صدر وحميمية لا نظير لها في تاريخ الأوطان. وإذا نحن أمام الجنوب مأوى ومنطلق لقادم جميل. ولا يمكن أبداً أن يتنكر أحد للتاريخ أو يستقوي عليه،فهو أستاذ المستقبل،ومعلمه هو شاهد حي على ميراث نضال،وعلى لحمة وطن، وعلى أن الجنوب للجميع حين كان الشمال قهراً وخسفاً وجوراً. وهو أي التاريخ مساحة الضوء الجميلة التي نبصر فيها نحن وما يجب أن نكون عليه. لذلك نكترث له نراه دورتنا الدموية وشريان الغد وحضور الجمال في الجمال،ولا يمكننا التغافل عن ذلك لنمارس من حيث لا ندري خيانة وطن ونتنكر للتضحيات وللشهداء وللجغرافيا التي أنطلق منها النضال في الجنوب والشمال بقلب واحد وحلم واحد ومصير واحد وهو الوحدة الوطنية قدر ومصير. هكذا علمنا الجنوب تجويد الوفاء وقدم وعياً متقدماً في العدالة الاجتماعية وكان صاحب السبق في الدفاع عن أهداف ومبادئ الثورة اليمنية حينما انتقل من احتضان كل الشماليين القادمين إليه إلى الخلاص من الاستعمار والرجعية ومخلفاتهما ليؤسس ثقافة تقدمية رائدة أعاقت الظلام ودكت قلاعه في الشمال كما في الجنوب لتبدو الحياة هنا للجميع والوطن مشترك الشعب، وليس سواه سيد الكينونة ونموذج التحدي القوي في وجه كل القوى التآمرية..
فتحية وفاء وعرفان وانتماء للجنوب البطل في أفراح ثورة 14أكتوبر وذكراها التاسعة والأربعون. تحية للذين كدحوا وتعبوا واستشهدوا من أجل الشمال خارج العزلة ينطلق إلى ما أرادته القوى الرفاقية المناضلة وطناً خالياً من الأوباش من الرجعية من التسلط والفراعنة، بفعل الجنوب حين كان للجميع والشمال غير قادر على أن يكون حتى هو.
محمد اللوزي
كان زمان في عهد الامام والاستعمار..الشمال للشماليين والجنوب للجنوبيين 2399