ما يحسب لثورة 14أكتوبر 63م هو أنها لم تكن ثورة على المحتل الانكليزي؛ وإنما كانت ثورة مكتملة بكل المقاييس والمعايير الفلسفية والسياسية والكفاحية والثورية والتاريخية والوطنية والحقوقية والقانونية والثقافية، وعندما نقول إن ثورة أكتوبر تامة ووافية؛ فلا يعني بحال من الأحوال الانتقاص أو التقليل من شأن ثورة 26 سبتمبر 62م، أو مثيلاتها من الثورات العربية التي يعدها البعض انقلاباً على حاكم وطني أياً كان شكل نظامه .
فالثورة باعتقادي لا يمكن وصفها بثورة لمجرد أنها ثارت على مستعمر أجنبي؛ فمثل هذا التوصيف الفلسفي النظري ربما صح إطلاقه وتعميمه لو أن المسألة هنا تتعلق بالمفاهيم والتعريفات الفلسفية المنهجية الجامدة في قواميس التاريخ السياسي الفلسفي .
ومع احترامنا لأولئك القائلين بضرورة توافر شرطية المستعمر الخارجي كيما تصير ثورة؛ إلا أن الناظر لهذه الحركات الانقلابية من جهة المنجز والمحقق للمجتمعات العربية عامة ، سيجد ذاته كائناً متزمتاً ومنغلقاً خارج سياق زمنه الحاضر، الذي باتت فيه الثورة تعني التغيير في كثير من مجالات الحياة، كما وتعني – ايضا- التحرر من قيود الاستبداد والجهل والفقر والتخلف والاضطهاد والظلم والاستعباد وغيرها من مفردات الحداثة المعاصرة .
وعودة لثورة 14أكتوبر؛ فهذه الثورة لم تكتف برحيل الاستعمار واستقلال الدولة الوطنية في الجنوب؛ بل يمكن القول أنها استهلت مسيرتها الحقيقية بدءاً من يوم الاستقلال الوطني 30نوفمبر 67م، فوحدة الجنوب أرضاً وإنساناً لم تكن إلا واحدة من مكاسب ثورة 14أكتوبر المجيدة، فيكفي الإشارة هنا إلى طبيعة الكيانات المقسمة للجنوب إلى 23 سلطنة وإمارة ومشيخة مستقلة بسلطته وسيادته وعلمه ومجتمعه .
ومع هذه الفسيفساء المتناثرة الزاخرة بتركة مثقلة بالفقر والجهل والمرض والتخلف والثأر والفرقة وووإلخ من الموروثات الماضوية؛ كان للدولة الوطنية الوليدة أن وحدت الجنوب مساحة وإنساناً، وفرضت القانون والنظام والسيادة على كامل التراب والبشر، كما ويحسب لهذه الدولة أنها أنهت التمايز الطبقي والأثني وكذا الثأر والاستعباد والتفرقة بين جميع مواطنيها، بحيث صارت المواطنة المتساوية أمام القانون هي القاسم المشترك بين كافة المواطنين اليمنيين .
نعم هناك أخطأ فظيعة ومنهكة تم اقترافها بحق الثورة ودولتها الجديدة التي ينبغي أن تمضي وفق إيديولوجية قادتها الثائرين على الرجعية والاستعمار ، ونعم هذه الدولة فشلت وأخفقت في تحقيق عديد من تطلعات وأحلام المواطنين في الحرية والرفاهية ، فمما لاشك فيه هو أن الدولة الجنوبية مرت بتواريخ صعبة وقاصمة لظهرها الغض والطري .
تلك الصراعات الدموية الحاصلة غالباً في رأس الدولة، ربما مثلت سبباً كافياً لأن تسقط فكرة الدولة المدنية الحديثة في أتون صراعات لا تنتهي، وقد يأخذ البعض على هذه الدولة بكونها ضحية اعتناقها لإيديولوجية ثورية دون سواها من العقائد النظرية الفلسفية الاقتصادية الضائق بها المكان والزمان .
لكننا ومع كل مساوئ وإخفاق التجربة يجب أن لا نغفل كثيراً من مكاسب ومنجزات الثورة والدولة الوطنية، فلو أننا عملنا مقارنة بين ثورتي 26سبتمبر و14أكتوبر لوجدنا كم هو البون شاسعاً ومتفاوتاً؟، فثورة أكتوبر يحسب لها إزالة الفوارق المجتمعية وجسدت روح الهوية اليمنية الواحدة، كما وحررت الإنسان الفرد من الجهل والاضطهاد .
صحيح أنه كان بمقدور هذه الدولة فعل الكثير كيما توفر لمواطنيها حاجتهم ورفاهيتهم وحرياتهم ، وصحيح أن النظام السياسي كان بمقدوره التعامل مع التحولات الحاصلة من حوله بقليل من الذكاء والحنكة ، بدلاً من الارتماء في شرك القوى المتخلفة ذاتها التي ناهضها زمناً طويلاً .
وبرغم هذا المآل الحزين الذي آلت إليه هذه الدولة وثورتها ومكاسبها ومجتمعها؛ ستظل ثورة 14أكتوبر، وستبقى دولتها وقيمها ومبادئها حية وباقية في وجدان ونفوس الناس الفقراء البسطاء الذين ما كان لهم ارتقاء وبلوغ ما بلغوه لولا ثورتهم المجيدة المحطمة لكل أشكال التمييز والتخلف والجهل .
نعم أياً كانت مواقفنا مؤيدة وداعمة لتجربة الثورة الوطنية في الجنوب، أو كانت مناهضة ورافضة، ومع ذلك لا أحد منا يمكنه نكران أن ما حققته ثورة أكتوبر لهو أكبر وأعظم من أن يختزل بقانون الأسرة أو مطاببة وتعليم وتأهيل مجاناً .
فشتان ما بين ثورة غايتها الأسمى خلاص الإنسان من عبوديته وجهله وسقمه، وبين ثورة ما فتأت خاضعة وخانعة للاستعباد والجهل، بين ثورة كاملة المضامين والأهداف والقيم العصرية المنحازة للتمدن والتحضر، وبين ثورة ناقصة مسروقة لم تستطع تحرير نفسها ومجتمعها من ربق التمايز وقيود الاستعباد والخوف والثأر والفوضى، بين ثورة حررت الأُم من أُميتها الهجائية واضطهادها، وجعلت من المرأة كائناً إنسانياً نداً للرجل في شتى مناحي الحياة، وبين ثورة يحسب لها تجهيل الابنة، وحرمانها من أبسط حقوقها الإنسانية .
محمد علي محسن
ثورة أكتوبر.. سلام عليك 2386