لماذا الوحدة ولماذا التجزئة ولماذا الفدرلة؟ فحين ينافح البعض منا على بقاء اليمن متوحداً بناء على وصيغته الاندماجية القائمة ؛ فعلى هؤلاء أن يحدثونا بلغة شفافة وواقعية تحترم عقولنا وتنتصر لمصلحتنا الجمعية.
لا نريد كلاماً وعضياً ومثالياً؛ كأن يقول أحدهم: الوحدة أمر منزل من رب السماء، الوحدة فرض عين على كل مسلم ومسلمة، وبما إنها فرض فلا يجوز التفريط بها وإن استدعى ذلك القتال، الوحدة منجز تاريخي جدير بالزهو والفخر بكونه قيمة حضارية وقومية ومجتمعية ناضل وضحى من أجله كثير من اليمنيين.
لتكون الوحدة بهذا المعنى والقداسة، لكننا نود من المتحمسين الغيورين جداً على صيرورة التوحد وعلى ذات المنوال الحالي ؛ لأن يحدثونا وبكل صدق وتجرد من أية أنانية؛ عن ماهية الوصفة السحرية التي يمتلكونها وبمقدورها إعادة الاعتبار للوحدة والمتوحدين ؟.
لا نريد أن يكون الكلام فضفاضاً وإنشائياً وسفسطائياً وراديكالياً ودينياً وتاريخياً! فمثل هذه الخطب العصماء لطالما ظلت وصفة مخدرة ومسكنة لمجتمع علته ووجعه أنه لم يضع يده على مصدر سقمه المزمن، فلجأ للمسكنات والتلاوات علها تبرئه وتشفيه وهي ليست كذلك.
لنفترض بالمقابل أن استعادة دولة الجنوب إلى حدود ما قبل 22 مايو 90م بات أمراً ممكناً ووشيكاً ويجب التسليم به غداً أو بعد أشهر ؛ فهل استعادة جمهورية اليمن الديمقراطية على كامل مساحتها وسيادتها سيكون نهاية عادلة وحاسمة لمشكلات وأزمات جنوبية شمالية أم ستكون هذه التجزئة بداية ومستهلاً لمشكلات وأزمات جنوبية جنوبية ؟.
دعكم من الكلام العاطفي الانفعالي السفسطائي العبثي، ومن هذه الحماسة الثورية التي يتحدث بها باعوم أو الحسني أو الشنفرة أو الخبجي أو غيرهم من الحاملين لراية فك الارتباط واستعادة دولة الجنوب، أو تلك اللغة التي يخطب بها الشيخ/ صادق الأحمر أو الشيخ الحزمي أو غيرهما من الخائضين في مثالب الردة والارتداد عن جمهورية واحدة لا مكان لها في وجدان وواقع الكثير.
نعم ؛ لنتحدث عن التجزئة والتوحد بكونهما فكرتين سياسيتين قابلتين للنقاش والتحاور لا باعتبارهما فكرتين راديكاليتين متزمتتين رافضتين لمنطق النقاش والحوار، وحدة وتجزئة بكونهما فعل بشري غايته الأسمى منفعة المتوحدين لا وحدة وتجزئة باعتبارهما قدراً مقدراً لا صلة لنا به أو مصلحة البته.
التوحد بصيغته القائمة المشوهة والقاتلة لروح التوحد المجتمعي ذاته ؛ بكل تأكيد لن ينفع معه هذا الإصرار العجيب على مواجهة أزمة معقدة ومركبة كالوحدة السياسية التي يتم تسويقها وكأنها ليست سوى أزمة بسيطة وعابرة يمكن سبرها ومعالجتها في كنف دولة مركزية توحدت قبل عقدين ونيف وأية حديث عن صياغة جديدة لوحدة اليمن يعد خطوة رجعية على طريق تجزئة وتفكك البلاد إلى أكثر من كيان ومسمى.
كذلك هي التجزئة حين تصير هروباً من مشكلات التوحد، فما أراه في الجنوب اليوم لا يجعلني أطمئن بأن الحل الوحيد يكمن في استعادة دولة الجنوب دون سواه من الحلول المتاحة، فمثل هذه الأصوات العالية سخطاً وغضباً وحماسة تذكرني بذلكم الاندفاع العاطفي الحماسي لوحدة سياسية غير مدروسة النتائج والعواقب، إنني وكلما نظرت الآن جنوباً؛ رأيت الأمس يعيد نفسه وإن بقالب وهدف مختلف اليوم، إنه الهروب الجامح ذاته الذي دفعنا ثمنه باهظا ومازلنا، ومع كل هذا الثمن المكلف يراد منا الهرب بذات الطريقة الفجة والغبية التي ذهبنا فيها إلى توحد نجهل منتهاه.
الفدرلة باعتقادي أفضل وأنجع طريقة، ففي الحالتين التوحد والتجزئة على هذه الصورة النمطية السائدة منذ عقدين تقريبا لن يكونا حلا ناجعاً ومطمئناً يمكن البناء عليه في قادم الزمن ، وعندما نقول بدولة اتحادية ؛ فلا يعني أن قولنا منزهاً لا يشوبه غبار أو خطأ، لكني هنا فقط أعبر عن وجهة نظر وسط وثالثه قد لا يستسيغها أيا من الطرفين الرافضين للتوحد أو التجزئة.
في نهاية المطاف أجدني مؤيدا وداعما لفكرة الفدرلة للدولة اليمنية الواحدة، لا أقول هذا الكلام لمجرد الاستهلاك أو المزايدة؛ بل مرد ذلك قراءة تاريخية وموضوعية وبحثية لمشكلات وأزمات اليمن قديماً وحديثاً، فكلما غصنا في أعماق المشكلات المجتمعية كانت الخلاصة واحدة وناتجة عن هيمنة طائفة أو جماعة أو قبيلة أو منطقة أو سلالة أو شخص على السلطة والقوة والقرار بل ووصل كثير إلى الاستئثار بثروة ومقدرات البلاد والعباد.
معضلة اليمن واليمنيين تتمثل بتركز سلطة اتخاذ القرار بيد شخص وفي مكان واحد، توزيع هذه السلطة والقوة والثروة والقرار هو مشكلة الحاضر والماضي – وأيضاً – المستقبل في حال بقت عقلية الاستئثار غالبة ومهيمنة على ما دونها من أفكار تشاركية، لنضع مسألة الشراكة الحقيقية في السلطة والقوة والقرار في موضع جدي بعيدا عن العنتريات الزائفة وبمعزل عن الثوابت الجامدة، حتما سنجدها مجتمعة في دولة اتحادية مغايرة كلياً لتوحد مختل ومشوه أو تجزئة لا تتناغم مع إيقاع الزمن الراهن والقادم.
وعيدكم مبارك وجميل
محمد علي محسن
الوحدة.. التجزئة.. الفدرلة !! 2377