في لندن وفي مكان إقامته بأحد فنادقها، جلس الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، تبدو عليه علامات الانشراح والحيوية، أخذ يتكلم في التاريخ القريب والبعيد، غير أنه كان فيما يبدو سعيدا بمستهل جولة أوروبية أميركية بدأها أواخر الشهر الماضي. بدا الرئيس واثقا وهادئا وربما متفائلا، يريد أن يخرج من تاريخ طويل مشرئب بالحمرة في البلاد التي تشبه وعورة تضاريسها طباع ساستها. قال: «شبعنا حروبا»، وانصرف يتحدث عن المستقبل. قلت مازحا: في لندن يمكن للرئيس أن ينزل ويستمتع بالمشي في شوارعها منفردا دون حراسات، نريد لصنعاء أن تكون كذلك، قلتها وأنا أعلم أنني أسبح في فضاء الأحلام. اكتفى الرئيس بنظرة ذات مغزى، ومضى يتحدث عن معاناة شعبه في هذه الفترة.
مشكلة الصحافة إزاء الرئيس هادي أنه قليل الكلام، وقد عبر عن ذلك بقوله: «وضعنا في اليمن لا يحتمل المزيد من الكلام.. نحن نريد المزيد من العمل». وواصل حديثه عن الجهود الحثيثة للتحضير لمؤتمر الحوار.
خرجت من عند الرئيس حينها وأنا مثقل بتساؤلات أكثر من التي كانت لديّ قبل مقابلته.
هادي اليوم أمام استحقاق الحوار الوطني في البلاد الذي من المقرر أن يبدأ الشهر المقبل، ولا يكاد اليمنيون يجمعون على شيء اليوم إلا على أمر واحد مخيف، وهو أن انهيار الحوار الوطني سيفتح أبواب جهنم في البلاد، والإشكال أن أكثر الفرقاء السياسيين يريدون استغلال منبر الحوار من أجل تحويل بقية الفرقاء إلى مواقفهم هم، أو لتمرير مشاريعهم السياسية أو الطائفية أو الجهوية.
تميز هادي بأنه حاول خلال الفترة الماضية البقاء على مسافة واحدة من جميع الفرقاء السياسيين، لكن الوقت يمضي ومعالم الصورة تتضح أكثر، والرئيس الذي يحاول عدم الدخول في خلافات الأحزاب سيجد نفسه مع الزمن منغمسا فيها ومضطرا لاتخاذ مواقف، والمواقف - عند اليمنيين - تعني التصنيف، والتصنيف يعني «معي أو ضدي».
المشكلة التي يواجهها هادي في نظري تأتي من أنه يملك الشرعية، ولا يملك - حاليا على الأقل - القوة الرافعة لهذه الشرعية، والمشكلة أن أغلب نقاط القوة التي في يد هادي تكمن في الخارج، وليس في الداخل، نسبة كبيرة من قوة الرئيس تكمن في المجتمع الدولي والإقليمي الداعم له، بدءا من جمال بن عمر ومرورا بالزياني وليس انتهاء بفايرستاين بالطبع. لكن هل القوة الخارجية ستمكن الرئيس من فرض سلطته في ظل وجود مراكز قوى داخلية - عسكرية وقبلية - تحاول التأثير على أداء الرئيس، أو حتى عرقلة عمله في الوقت الذي تحاول فيه أن تظهر بمظهر الملتزم بقراراته؟ وفي وقت لا يبدو فيه أن الثعابين التي كان صالح يرقص على رؤوسها بصدد الترويض، بل إن جو الفوضى الذي تشهده البلاد شهد انطلاق ثعابين أخرى أكثر توثبا في تلهفها للوصول إلى كعكة السبعين.
في رحلة هادي الخارجية الأخيرة، أرسل عدة رسائل للغرب بشكل عام، وللجوار وللداخل ولإيران، الغرب وعده باستمرار الحرب على «القاعدة»، والجوار زاره في طريق عودته، والداخل بعث هادي له برسالة قوية مفادها أن البعد الخارجي في القوة الجديدة سيعمل على تقليم نيوب الثعابين التي لا تريد أن تتروض، وأما إيران فيبدو أن هادي قد عمد إلى شعرة معاوية وقطعها بعد أن رفض محاولات نجاد لقاءه على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، كما رفض مبعوثا خاصا لنجاد حاول لقاءه قبل ذلك في صنعاء بعد ضبط خلايا التجسس الإيرانية.
هادي واليمنيون اليوم على أبواب الحوار، والعقابيل أمام الحوار لا تعد، والفرص لإنجاحه متاحة كذلك.
في الحوار سيأتي الفرقاء بطروحات وأهداف، أعلاها انفصال الجنوب، وأقلها ربما إقامة ما يشبه «حكما ذاتيا» ذا طبيعة مذهبية في شمال الشمال، وبين هذين الطرحين ستحضر إلى الحوار دماء سالت في الحصبة وأرحب والسبعين والدائري، وربما حضرت دماء قديمة قبل ذلك التاريخ، كما ستجيء لمؤتمر الحوار نفوس متوترة، وصراع طويل بين المؤتمر الشعبي العام واللقاء المشترك، وسيحضر الشباب بطموحاتهم الكبيرة، أو لنقل بأحلامهم الوردية، وستحضر القبائل بشكل أو بآخر، ومجرد نظرة سريعة على مكونات الحوار تجعلنا نضع الأكف على الصدور، وإذا أضفنا إلى ذلك أن إيران ستسعى بكل تأكيد إلى تحريك وكلائها على الساحة اليمنية لدخول الحوار من أجل إفشاله، وسوف تحاول أن تواصل لعبتها المفضلة في مد يدها للرئيس والحكومة والحوثيين والحراكيين وأطراف أخرى في المشترك لتوهم الجميع بأنها تدعمهم، في الوقت الذي هي فيه لا تدعم حقيقة إلا الحوثيين، وأما دعمها للآخرين فبهدف ضرب الأطراف بعضها ببعض. بالطبع لا يكون المرور على العقابيل دون التعرض لـ«القاعدة»، فهي تقف على مسافة غير بعيدة من جو الحوار، وهي تستطيع أن تخلط الأوراق، وتوتر الأجواء، بقليل من الأحزمة الناسفة التي تحمل في طياتها رسائل للداخل والخارج. كما أن الجيش المنقسم على نفسه والحكومة المنقسمة على نفسها، والحالة الأمنية غير المستتبة، كل ذلك سيؤثر بالسلب على مجريات الحوار.
وفيما يخص الجيش والقوى الأمنية فقد كان المفترض أن يتم توحيد قيادة الجيش قبل مؤتمر الحوار على أن تتم عملية إعادة هيكلته على فترة أطول تستمر خلال مؤتمر الحوار، وإلى ما بعد هذه الفترة، على اعتبار أن إعادة الهيكلة عملية فنية معقدة تتطلب بعض الوقت، فيما توحيد قيادة الجيش لا يحتاج إلا إلى قرارات رئاسية جريئة. ومع كل تلك المعوقات إلا أن الدعم الذي يبديه المجتمع الدولي لإنجاح الحوار في البلاد، والعلاقات التي يملكها رعاة المبادرة الخليجية مع الفرقاء السياسيين، والضغط الدولي والإقليمي لإنجاح الحوار، والحرص الذي تبديه الأطراف الفاعلة على عدم الانزلاق في الفوضى، ووضوح المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية في أغلب بنودها، ووجود بوادر إيجابية من أطراف في الحراك الجنوبي لحضور مؤتمر الحوار..
كل ذلك يعطي مؤشرات تدفع للتفاؤل بإنجاح مؤتمر الحوار، شريطة عدم الاشتراط لحضوره، ومن ثم مناقشة كل ما يمكن أن تطرحه الأطراف المشاركة من أفكار حول شكل الدولة الجديدة والنظام السياسي والانتخابي الجديدين.
من جردة حساب بسيطة يتبين أن حجم التحديات التي تفرضها المرحلة تكاد تنوء بالعصبة من «قوم سبأ»، إلا أن الحلول الناجعة تخرج أحيانا من رحم التحديات الصعبة، حين يستطيع الحكماء تحويل المحن إلى منح يتفيأ ظلالها الجميع.
الشرق الأوسط
محمد جميح
هادي والحوار والثعابين 2175