التاريخ لا يقبل التعسف وهو بحيادية يقدم نفسه... فقط من يريد أن يلوي عنق الحقيقة يجتزئ منه ما يرغب فيه، في محاولة عبثية للكيد أو لتزوير وقائع وتداخل أحداث وتفسيرها وجعل هذا التفسير كأنه التاريخ ذاته.وهو أمر يقف عليه المثقف اللامنتمي، المكلف بتشويه المعاني المستخلصة من الأحداث لكي لايبقى للأمة أو للوطن معاني انتماء ورموز تحرك الوجدان أو تعبر عن مخزون الوعي في التاريخ وبالتاريخ أيضاً،نجد هذا في شواهد عدة يصيغها زوراً كتاباً في سطور محددة تنم عن رغبة مقيته في استعداء الحياة ومعانيها وفي التحول بمسار الراهن نحو التظليل بنزوع لاأخلاقي يقدم عليه من يجيدون الخطاب المشوه الإحتقاني ومن يوهمون ذواتهم أن كل شيء قابل للتزييف،وهي مهمة المثقف في بعده الذاتي والمدجن على تهميش الحقيقة وإخراجها من المتن الى حيز الهامشي بأسلوب برجماتي في تحولاته وتمنطقه وفي ولوعه بالمغالطة لنيل حظوة ما، لدى( س أو ص) ممن يعنيهم تزييف الوقائع وتغيير وجه الحقيقة.
نجد هذا كلما احتدم الصراع بين القوى البائتة وقوى الجديد وبين السلطة والجماهير في حركة نضالها، ومنذ البيت الأموي في رفعه شعار (المنصور من نصره الله) وحتى اليوم وكلا الفريقين يتكيء على الماضي يريده منحازاً إليه ليقع في خطأ التوهم والانتقال من القدرة المعرفية المحايدة إلى مسار الخطأ والمراهنة عليه كمنقذ.
وإزاء هذا الخطاب الوهمي تنهار منظومة التفكير ويصبح الزيف مكوناً أخلاقياً قيمياً لدى من يريد تعطيل الصيرورة التاريخية ومكون تحريكها الإقتصادي والثقافي والإجتماعي......الخ.. ولعل هذا الخطأ هو ما أسقط أنظمة ديكتاتورية معاصرة حينما راهنت على لي الحقيقة والقفز على منطوق التاريخ.
بذات المستوى يقع المثقف الإنتهازي، المرابي المجسد لمصالح قوى على حساب تاريخ وإنسان وهو في محصلة الأمر لا يعدو عن كونه واهماً بمحدودية مصلحته وانتهازيته وتغليبه فعل القوى اللا منتمية على دولاب التاريخ الكبير الذي يحضر بقوة في متغيرات وتحولات جذرية نراها اليوم لا تقبل التراجع ولا يمكنها الإلتفات إلى قوى غاب عنها الوعي في تجاوزها حقائق التاريخ لتقع في وهم التحريف وتغليب الذاتي على الواقعي.
وهو ما يكشف عن خواء حقيقي تعيشه ذات القوى بكل تمضهراتها الثقافية مهما استطاعت أن تغلف نفسها وتدخل حالة تلبس بالواقعي أو تعمل على تحوير مفاهيم في قلب التاريخ لإنجاز لحظة نصر لقوى معينة في حين تغيب أمة أو وطن لمجرد ارتهان آني وتمثل حالة تستهدف ما هو حقيقي وتنال منه على الأقل نسبيا.
وإزاء هذا التعامل الفج تغدو ذات القوى التي غلب عليها التزييف ومحاولة استلاب المكون الإجتماعي، معطاه التاريخي عبر صياغة لا منتمية مجرد آلة صوتية فارغة المعنى ،ذلك لأن تحولات الروح الوطنية هي الأقدر على إنجاز الحقيقي والإنتساب له والإنطلاق منه، وهو ما قد يزيح السلبي مهما كانت قوته وحجم المنتسب إليه.. فالواقع في السياق التاريخي الصحيح يتقدم على الدوام والتطور سنة من سنن الكون لا يقدر على حجبه من يعيش وهم الزيف والإدعاء بامتلاك الحقيقة وتغليب الذاتي على الموضوعي.
ولعل الثورة اليمنية وفعل التغيير شواهد حية وقوية على مدى قوة الوعي بالراهن في السياق التاريخي وغشامة السلطوي المناهض لروح الأمة وهي تتطلع إلى الأفضل وتستلهم من معاني النصر في سياق التاريخي ما يمنحها قوة الفعل من خلال الوعي بممكنات التحول إلى الأمام..
هكذا تفلت الجماهير والشعوب من عقال السلطوي مهما تمادى في تزييف التاريخ واشتغل معه المثقف الإنتهازي المعبر عن ذاتية فجة تصنع من السلطوي بطلا خرافيا وترفعه إلى مصاف الألوهة وتحجب عن القوى الوطنية كثيراً من الحقيقة،ولكن ذلك يغدو إلى حين حيث تتآزر بفعل متغيرات الراهن في سياق التطور البشري،عوامل التقدم التقني وتداخل المجتمعات، وما أنجزه الإنسان في التاريخ،ليكون قوة دفع في إتجاه ما هو خلاق وإنساني ويحقق القدر الأكبر من المكاسب للمجتمع،وحسر الذاتي إن لم يتم القضاء عليه.وفي كل الأحوال يبقى التاريخ نبض أمة بسلبيته وإيجابيته، ويبقى كمتحف في الرؤية إليه من زاوية علمية منهجية، ويغدو فعلا خلاقا حين تتمثله الجماهير كمخزون لها في نضالاتها ضد القهر والتعسف والطغيان،كما يبقى أحد أهم عوامل المقاومة وإسقاط الرهانات المخادعة والزيف.
ومهما تكالبت الظروف وساند المثقف السلطوي اللامنتمي قوى الطغيان. فإنه لن ينال بنشر زيفه غير الفشل بفعل حجب الواقعي على ذات القوى التي تجد نفسها وقد تاهت في سياق التبريري الذي ينتجه المثقف، وهو سياق هزيل وآني يتطور إلى حالة مرضية يصاب بها السلطوي من خلال تزييف المثقف لما هو حقيقي ومن حالة استخذاء السلطوي لوهم القوة.
وهنا يحدث شرخ بين السلطة والمجتمع وحالة اغتراب عن الواقع وتشكله، وانفصال تام عن قضايا الأمة والوطن، بما يجعل مقاومة الطغيان ضرورة لابد منها.
ومن يقرأ التاريخ بتجرد وتمعن يدرك أن أعتى الدكتاتوريات سقطت بغرورها وتعاليها عن الواقع وغياب المعرفي في سياق التاريخ، واقتراب المثقف الإنتهازي منها الذي يكسبها تعالياً وغروراً يعجل بإسقاطها وهي في غفلة من الأمر وتغدو حينئذ مجرد قوة متلاشية فاقدة معناها ومجرد فاصلة صغيرة في سياق كبير جداً اسمه تاريخ البشرية وليس الوطن فقط والنماذج عديدة من فرعون غرقاً إلى هتلر انتحاراً وموسليني قتلاً وشاه إيران طرداً ومعمر القذافي قتلاً وحتى نظام ما كان يسمى في الوطن اليمني بالصالحية كما نظر لذلك بعض مثقفي السلطة واشتغل على تزييف الحقيقة نفر من المتمصلحين الذين وجدوا في سخاء السلطوي ما دفعهم إلى التجني على التاريخ ومحاولة قهره ولي عنق الحقيقة..
ويبدو اليوم من خلال انتصار الجماهير لتاريخها وحياتها أنها تقدم معنى أكثر قوة لأي قادم سلطوي، في أن التاريخ وحده يقدر أن يتكلم ويكشف عن مكامن السلبي ويؤرخ للبطل والدكتاتور على السواء ويصيغ وجدان أمة ووعي شعب هكذا هو ينجز نصره من مكامن القهر ويحقق إرادته من الوعي بالتاريخ وقوته من أنين مظلومين وسجن طغاة، هذا ما يكشفه لنا الفعل الخلاق اليوم بمعانيه القوية في سياق التطلع إلى الأمام
محمد اللوزي
المثقف الانتهازي 2081