يتعرض العالم بين فينة وأخرى لأزمات اقتصادية تكاد تعصف بكثير من الأنظمة السياسية في كثير من بقاع الأرض وآخرها الأزمة المالية التي تمر بالعالم اليوم وصارت هذه الأزمات تهدد كيان النظام الرأسمالي السائد والمتحكم في الأرض وما عليها، فهذا أكبر اقتصاد دولة في العالم وهي دولة الولايات المتحدة الأمريكية مهدد بالانزلاق إلى هاوية الكساد والإفلاس.
إن التعامل مع هذه الأزمات المالية التي تهدد الاقتصاد العالمي برمته أثبت فشله من حيث معالجة الأسباب الحقيقة للأزمة بل ويلجأ إلى اتخاذ إجراءات وقتية لإيقاف تداعيات الأزمة بدلاً من وضع الحلول الناجعة لها، فقد ازدادت الأزمة الاقتصادية العالمية سوءاً منذ قمة واشنطن في شهر نوفمبر تشرين ثاني 2009م والتي عقدها زعماء الدول العشرين التي تستحوذ على 90% من الناتج الاقتصادي العالمي و 8% من التجارة العالمية. إن الأزمة التي تعصف الآن بالعالم ليست الأولى من نوعها، فلقد كانت هناك أزمة كبرى في عام 1929م وسميت بأزمة الكساد الكبير.
ومن أشهر أزمات النظام الرأسمالي ما حصل في الأسبوع الأخير من شهر تشرين الأول عام 1997م حيث حصل هبوطاً حاداً في أسعار الأسهم في الأسواق المالية الكبرى، بدأ في هونغ كونغ، وانتقل إلى اليابان، ثم إلى أوروبا، وتتالى الهبوط من بلد لآخر، وقد سبق هذه الأزمة التي اجتاحت أمريكا وأوروبا ما جرى في جنوب شرق آسيا من تدهور في أسعار صرف عملات دولها، وهبوط أسعار صرف أسهم شركاتها، فأشرفت عدد من المصارف والشركات على الهلاك من تايلند إلى الفلبين وماليزيا واندونيسيا، ثم امتدت الأزمة كالعدوى إلى كوريا الجنوبية وتايوان. وفي هذه الأيام تفاعلت أزمات البورصة والرهن العقاري، وتساهلت كثير من المؤسسات المالية العقارية في الرهون العقارية، وتوسعت القروض مقابل زهون وهميه وعجز المقترضون عن السداد فأفلست كبرى البنوك والمؤسسات المالية في أمريكا أو كادت. لقد كان للدعاية وكثافتها لسوق الرهن العقاري في أمريكا وللأرباح الوفيرة المتوقعة وفق أرباب صناعة الإعلان أن تسارعت البنوك الدولية، والأسواق المالية للاستثمار في هذا السوق وهكذا انعكس إفلاس البنوك والمؤسسات المالية الأمريكية على العالم. تاريخ الرأسمالية هو تاريخ تتضاعف فيه أرباح الرأسمالية وتبقى الطبقة العاملة على فقرها وحاجتها لان فقر الطبقة العاملة شرط ضروري لاستمرار الرأسمالية.
الرأسماليون يمتلكون أدوات الإنتاج ويمتلكون النقود ويحتاجون إلى الطبقة العاملة التي تخلق لهم بعملها فائض القيمة مصدر أرباحهم الوحيد. والطبقة العاملة في المجتمع الرأسمالي تحتاج إلى الرأسمالية لأنها لا تستطيع العمل والإنتاج بدون أدوات الإنتاج التي يمتلكها الرأسماليون.
إن عجز العامل عن الوصول إلى أدوات إنتاج الرأسمالي يوماً يعني فناء قوة عملة سلعته الوحيدة، التي يحصل عن طريقها على وسائل عيشه ذلك اليوم إذ يبقى عاطلا. وجود الطبقة العاملة في المجتمع الرأسمالي ضروري بالنسبة للرأسماليين لأنه يضمن أرباحهم ووجود الرأسمالي ضروري للطبقة العاملة لأنه يضمن لهم الحصول على معيشتهم فهما وحدة نقيضين.
يبدو من هذا إن وجود الطبقتين جنبا إلى جنب هو وضع مفيد لكلا الطبقتين، يبدو من هذا أن هذا الاندماج بين الطبقتين هو مفيد للطرفين لأنه من ناحية يضمن تواصل أرباح الرأسماليين ومن الناحية الأخرى يضمن حصول الطبقة العاملة على ما يسد رمقها. ومع ذلك فإن تاريخ النظام الرأسمالي هو تاريخ الصراع الطبقي بين الطبقتين. ولكن هل ثمة إلى جانب الأرباح التي يقدمها فائض القيمة للرأسماليين جانب سلبي؟ لقد كانت المبالغة في حجم الخوف السائد من الانهيار الحالي في الأسواق المالية الذي ترتب عليه دفع سلوك المتعاملين في البورصات في الاتجاه المعاكس، بنفس حجم الطمع الذي سيطر على التعاملات المالية خلال الفترة السابقة مباشرة، ولكن أدى هذا الرعب الذي ساد الأسواق المالية العالمية إلى حدوث كارثة. وإذا ما أردنا التخفيف من حدة تلك الأزمة، أو على الأقل عدم زيادة آثارها، فيجب أن يتوقف ذلك الشعور السائد في الحال. لقد فرضت الأزمة المالية العالمية التي اجتاحت العالم الرأسمالي مؤخرا الكثير من التساؤلات حول مستقبل النظام الرأسمالي العالمي، وأنعشت آمال الكثير من الاقتصاديين ذوي الاتجاهات المخالفة، وعلى رأسهم التيار الاشتراكي، وأخذ الجميع يعد العدة تحسبا لما بعد السقوط!! على أن المتأمل في المشهد الدائر الآن يعرف أن ما أصاب النظام الرأسمالي هو مجرد مرحلة من مراحل الانتكاسات التي يُمنى بها النظام، والتي ما تلبث أن تزول ويتعافى منها النظام بدخوله في مرحلة أخرى من مراحل تطوره.
وتكشف مراجعة تاريخ هذا النظام وما مر به من أزمات وكيف تكيف معها واستفاد منها عن صحة ذلك. ففي المراحل الأولى للرأسمالية، والتي كانت تُعرف بمرحلة الرأسمالية المركنتيلية (التجارية)، وهي المرحلة التي سادت في أعقاب الكشوف الجغرافية الكبيرة، استطاعت الدول الرأسمالية الكبرى في ذلك الوقت تحقيق تراكم رأسمالي ضخم بسبب التجارة مع المستعمرات الجديدة. ثم تلت هذه المرحلة الرأسمالية الصناعية، وهي المرحلة التي تلت الرأسمالية التجارية، واستغلت التراكم الرأسمالي الضخم المتحقق في إحداث الثورة الصناعية. وتمتاز هذه الفترة من الرأسمالية بأن التراكم الرأسمالي المتحقق كان حقيقياً، بمعنى أن النقود كان لها قيماً محددة من المعادن النفيسة (الذهب والفضة)، وهي بالتالي كانت مقياسا حقيقيا يعبر عن قيم عينية موجودة بالفعل، وقابلة للتداول. فقد كانت تلك النقود مرتبطة بقاعدة هامة هي " قاعدة الذهب ".
وفي ظل التطبيق الكامل لقاعدة الذهب، كانت وحدة النقد تتكون من وزن ثابت من الذهب بدرجة نقاوة عالية. وهكذا يكون سعر الذهب – بالنظر إلى العملة القومية – ثابتا، كما تكون هناك حرية كاملة في بيع وشراء الذهب، وكذلك في استيراده أو تصديره. ولكن حدثت أزمة كبيرة خلال الثلاثينات من القرن الماضي، فيما عُرف باسم " أزمة الكساد الكبير "، كادت الرأسمالية أن تلفظ فيها أنفاسها، وتُشيّع إلى مثواها الأخير. ولكن كانت أفكار كينز بمثابة قارب النجاة لهذا النظام، الذي تم التردد كثيرا قبل قبولها والعمل بها.
ثم كان اندلاع نيران الحرب العالمية الثانية بمثابة كتابة تاريخ الميلاد الجديد للرأسمالية، بسبب ما نجم عن ذلك من صفقات للأسلحة وتدوير مصانع المعدات الحربية، وما تلا ذلك من تدفق الحياة في شرايين النظام الاقتصادي بأكمله. إن ما يعاني منه النظام الاقتصادي العالمي الآن ليس أزمة سيولة تتطلب ضخ كل تلك الأموال التي قامت معظم الدول الرأسمالية بتدبيرها لإنعاش النظام المالي العالمي، بل قد يكون ما يعاني منه النظام الاقتصادي العالمي بالفعل هو عدم وجود نظرية اقتصادية تفسر سبب حدوث هذا " التسونامي " المالي، وما هي النتائج التي سوف تترتب عليه. فعلى مدار الثلاثين عاما الماضية، كرس الاقتصاديون طاقاتهم الفكرية لإثبات استحالة حدوث تلك الكوارث.
وكانوا يقولون بأن نظام السوق كفيل بإعادة أي اختلال – لو حدث – إلى نصابه الصحيح. كما كانوا يستبعدون بالطبع الطمع أو الجهل أو القلق أو سوء التقدير أو العوامل السياسية من حساباتهم. ولذلك فإن النظرية الاقتصادية التي كانت مسيطرة على فكر التيار الاقتصادي المهيمن على الاقتصاد العالمي ليس لديها أي تفسير عن السبب وراء سير الأمور بهذا السوء.
ولكي نفهم لماذا أُصيبت الأسواق بتلك الأعاصير المدمرة، فعلينا الرجوع إلى جون مينارد كينز. لم يندهش هذا الاقتصادي البريطاني من الانهيار المالي العظيم الذي حدث في عصره لأنه كان على قناعة بأن هذا هو بالضبط ما سوف يؤدي إليه غياب الرقابة عن الأسواق. وكان فكر " الاقتصاد الجديد "، حسبما كان يشار إلى الاقتصاد الكينزي في الولايات المتحدة، والذي سرعان ما أصبح يشار إليه بالفكر " الاقتصادي القديم " فيما بعد انقشاع الأزمة – يهدف لمنع حدوث تلك الانهيارات.
وكان هذا الفكر يوجب على الحكومات أن تقوم بالتنويع فيما بين الضرائب والإنفاق العام لتعويض أي ميل للتضخم بالارتفاع أو للإنتاجية بالانخفاض. وعلى مدار 25 عاما تقريبا، قامت الحكومات بعمل ذلك، ونجحت في تلافي حدوث أي أزمات كبيرة. ثم جاءت لحظة التغيير بعد ذلك. فقد سيطر على العالم تيار آخر فيما عُرف بتيار المحافظين، الذين كانت لهم آراء مختلفة تماما عما سبق.
د. عادل عامر
هل العامل الاقتصادي هو سبب الأزمات 2454