آخر تقليعة لطارق الفضلي ترافقت مع سقوطه وإجباره على مغادرة أبين, قوله إنه «اعتزل السياسة».. ربما أن الرجل أصبح بلا ذاكرة من كثر التقنفاز فوق الحبال المتعددة ، أو أنه يعتبرنا نحن اليمنيين بلا ذاكرة تختزن تاريخه «السياسي » المجيد! ، بدايةً من اغتيالات التسعينيات وانتهاء بمعارك الإرهابيين المزدوجين في أبين، وحتى هو نفسه بدا وكأنه يتباهى بالسجل الدامي الذي كان جزءاً منه في مقابلة تلفزيونية حاول أن يناور فيها مع البقايا في لحظة غروبهم.
لا بأس أن يخرج طارق الفضلي من مسرحه التاريخي في محافظة أبين ، فهذا السيناريو وإن كان ينتقص كثيراً من استحقاقات القانون والعدالة من خلال إنقاذ الفضلي من الاعتقال ونفاذه مؤقتاً من العقاب, إلا أنه يحمل مؤشراً مهماً عن توحد محافظة أبين ونهاية تأثير المتطرفين فيها بعد عشرين عاماً من العبث تحولت خلالها إلى مسرح لأوراق الإرهاب وكروت صالح ونظامه.
وجه الدلالة الإيجابية هو هذا: إن زمن الجهاديين وجيش عدن أبين وأنصار الشريعة والسلطان الصغير قد انتهى الآن في محافظة سيكون لها دورها التاريخي على المستويات كافة من القضية الجنوبية إلى مسار المرحلة الانتقالية والقضية الوطنية اليمنية بشكل عام .
ووجه الدلالة السلبية لما حدث هو استمرار التسويات وأنصاف الحلول مع الإرهابيين والخارجين عن القانون, والأهم هو استمرار اللعب بالكروت الحارقة من قبل قوى تهدف إلى عرقلة اليمن والانتقام من اليمنيين وثورتهم الشعبية السلمية.
حاول هؤلاء إعادة الفضلي إلى أبين محمولاً على أطقم الدولة.. وعندما حوصر الكرت الحارق من قبل اللجان الشعبية هبّ الوسطاء من كل نوع لإخراجه من مخبئه باسم التفاوض والاتفاق وتوصلوا إلى نقله بموكب عسكري إلى عدن ومن ثم بطائرة إلى صنعاء تحت الإقامة الجبرية وكأنه زعيم سياسي ، بدلاً من مثوله أمام العدالة للفصل في التهم المثارة حوله والأدوار المشبوهة التي قام بها في أبين أثناء المواجهات بين الجيش والإرهابيين، وهو الدور الذي دفع باللجان الشعبية إلى الإعلان عن قائمة مطلوبين للعدالة وإهدار دمهم تتكون من 22 مطلوباً، وعلى رأسهم طارق الفضلي.
وبدورها سبقت قبائل المراقشة «آل فضل» اللجان الشعبية بثلاث سنوات حين علقت في أغسطس 2009 مشيخة الفضلي لها واحتفظت بحقها في مقاضاته على الأراضي التي نهبها من آل فضل..
أما الجهات الرسمية الآن وقبل أن يجف حبر التوجيهات بالتحقيق مع قيادة اللواء 115 حرس جمهوري التي أعادت الفضلي، ذهبت قيادة المحور لتنقذه من بين فكي اللجان الشعبية .
في السياق نفسه لا زال ابن العوبلي, المتهم بقتل جنديين يمنيين من أفراد النجدة, محمياً من قبل قيادة الحرس الجمهوري، وضمن أغرب ما قرأناه تصريحاً لقائد شرطة النجدة «يتمنى » فيه أن يستجيب أحمد صالح لمناشداته ويسلم المتهم!..
عندما يوضع القانون على الرف تضيع هيبة الدولة وتذبح العدالة في مسالخ النافذين, وعندما يصبح تطبيق القانون مراتب ومستويات كلاً بحسب نفوذه وقوة المؤسسة العامة التي يديرها كملك شخصي، يغدو كل شيء متوقعاً بما في ذلك التطرف والإرهاب والانفلات والفوضى.
مشهد آخر يذكرنا بنظام الراقص على الثعابين، وليس ذلك سوى نزول المجاميع المسلحة من الحدأ إلى عدن للتصعيد في حادثة قتل عادية تحولت إلى نزاع مع الصبيحة، وكأننا نعيش بلا دولة وليس لدينا قوانين ومحاكم ونيابات وقضاة وبحث جنائي وأجهزة أمنية.
كان الرئيس السابق ونظامه يتعمد تأجيج النزاعات بين المناطق والقبائل ليتسنى له استنزاف المجتمع في صراعات وعداوات لا تنتهي ..وفي السنوات الأخيرة تابعنا كيف تم التحريض وتقديم التسهيلات في قضايا مشهورة بينها قضية مقتل الرعوي في محافظة إب، وقضية احتجاز قائد الأمن المركزي بتعز، وانتقال المجاميع المسلحة من ذمار إلى المحافظتين وكأننا في حروب داحس والغبراء .
تحديداً كان تركيز النظام على خلق نزاع بين تعز وذمار، وقد جاءت الثورة الشعبية السلمية لتزيل كل هذا الصدأ الذي ابتدعه النظام السابق ولتثبت أن اليمنيين متلاحمون ومندمجون كشعب عندما تتعطل الآلة الخبيثة التي دأبت على خلق التشظيات بينهم وتوسيعها ليسهل لها حكمهم .
في ذمار كان موقف قبائل الحدأ وعنس رائعاً وتاريخياً في استقبال مسيرة الحياة وضيافة جموعها ومرافقتها إلى مشارف العاصمة صنعاء في مشهد تاريخي معبر عن معدن الشعب اليمني وأصالته وتلاحمه وتضامنه ونضاله الوطني .
الآن مرة أخرى تعود الآلة الإعلامية لبقايا البقايا لتؤجج وتستغل وتنفخ في القضايا العادية لتحولها إلى نزاعات قبلية ومناطقية .
أمس كان أحد المواقع يفبرك تصريحاً لا وجود له باسم المناضل والقائد/ محمود احمد سالم الصبيحي- قائد محور العند- حول القضية موضع الخلاف، وهم بذلك يستهدفون مكانة هذا الرجل وتاريخه بقدر ما يستهدفون إعادة إنتاج الصراعات المتخلفة .
وعندما تمر مواكب الجماعات المسلحة المتعصبة عبر النقاط العسكرية الأمنية من ذمار إلى داخل عدن تلتوي علامة استفهام كبيرة بطول المسافة من ذمار إلى عدن, يمكننا تدويرها حول الموقف الرسمي لـ«الحكومة».. بانتظار الإجابة وفق سياق الأحداث في الأسابيع القادمة: إما أن تضع الدولة حداً للانفلات وتوظيفاته، أو يستمر مسلسل الراقص على رؤوس الثعابين إلى مالا نهاية .!!
مصطفى راجح
كيف نتجاوز أنصاف الحلول؟.. طارق الفضلي أنموذجاً 2249