مات الرجل بصمت وهدوء ودونما ضجيج أو صخب، نهاية مشرفة ولائقة بمناضل عاش حياته وقوراً زاهداً متواضعاً بسيطاً قليل الكلام، رحل عنا مناضل فريد قلما يتكرر زهده وتحضره ونكرانه لذاته وتبجيله لتاريخه الكفاحي والوطني والإنساني الزاخر بكثير من الأفعال والمآثر الرائعة والمشرفة الجديرة بالفخر والتباهي..
رحل عنا رجل يعد هامة من الكبرياء والإيثار والاحترام، توقف خفقان قلب قامة نضالية كبيرة بحجم المناضل/عسكر ناجي مقبل الحميراء،بكل تأكيد اسمه نكرة على جيل ترعرع في كنف ثقافة ممجدة للسلطان الفاسد، وسائل إعلامها منهمكة ليل ونهار بترديد اسطوانة واحدة لا متسع فيها لغير أسماء وألقاب صاحب الفخامة والحكمة والمكرمة ..!
حزين جداً كون الراحل من الرجال القلائل النادرين الذين يندر وجودهم في حياتنا المليئة بأصناف شتى من أدعياء النضال والمقاومة والتضحية وبكثير من الزيف والنفاق والكذب والدجل والثراء الفاحش، فهذه جميعها ليست من شيم المناضلين الشرفاء الذين جادوا بكل غالٍ ونفيس كي نحيا ونعيش بحرية وكرامة ومساواة.
فالحاج عسكر أظنه من خيرة المناضلين ؛ بل وأفضلهم نبلاً وشهامة وجوداً، فيكفي القول هنا بأنه كان تاجراً مرموقاً ولديه من الأسباب والمبررات ما تجعله حريصاً على تجارته وماله، لكنه مع ذلك خاطر وضحى، فلم يقتصر دوره على دعم الثورة والثوار، إذ كان لجبهة الضالع بمثابة صندوقها المؤتمن على أسرارها ومالها، وهو كذلك – أيضاً – فما من شك في ذمة رجل عاش نزيها وعفيفاً إلى أن توفاه الله في داره كفيفاً صبوراً على وجعه وألمه، مؤمناً بعدالة السماء المطلقة.
قبل بضعة أعوام قابلت العم عسكر رحمه الله، فكم شدني حديثه وتواضعه ودمثة خلقه، إنسان بسيط وكريم، وهو يسرد مظلمته بتأنٍ وتأدب قلما نعثر عليه في زمن طغت فيه الوقاحة وقلة الحياء، خيل لي أن محدثي خير تجسيد لمقولة عمر الفاروق (أجود الناس من أعطى من حرمه، وأحلم الناس من عفا عمَّن ظلمه)، هو كذلك كان جوادا سخياً معناً جميعاً.
لم يمِن أبداً بكونه وهبنا كفاحه وماله وحياته وعافيته، فجازينا كرمه بلؤم وجحود ونسيان! لم يفعل إزاء استيلاء نافذ على مساحة أرض اشتراها في الرباط من حر ماله وكي يقيم عليها مشروعاً استثمارياً! لم يساوم.. لم يتنازل عن كبريائه وتاريخه نظير حق مغتصب يدرك جلياً أنه سيعود يوماً ولن يضيع..لم تجبره الظروف القاهرة لأن يلجأ للمعز وذهبه وسلطانه كيما ينظر إليه فيجز له بعطاياه وأوامره ! لا لا فالرجل ظل في دكانه الصغير كوكيل لشركة شهيرة تبيع سليط محركات المركبات مثلما اعتدناه.
يصل صباحاً على متن سيارته "لاند روفر" السوداء، ويعود من متجره المتواضع مع أذان صلاة الظهر، إنسان منضبط كساعة سويسرية، لعقود مضت والفقيد على نمط واحد من النظام الدقيق، البعض طالما تساءل عن سر احتفاظه بمركبة قديمة ابتاعها من الضابط السياسي الانكليزي جودي فري مينل - المعروف بـ(المستر ميلن) – وبرغم قدرته على استبدالها بماركة حديثة ؛إلا أنه بقي يستخدمها وأولاده ودون توقف أو تبدل إلى أن أقعد المرض العضال صاحبها فيما سيارته مازالت تقل أولاده ذهاباً وإياباً من منزلهم بقرية الحميراء القريبة إلى سوق مدينة الضالع.
نعم كنت قد قطعت على نفسي وعداً لأن التقي به كي يخرج عن صمته، التقطت له ولسيارته صورتين على أمل أن يمنحني شيئاً من مخزون ذاكرة لا أعلم كيف ولماذا لم تنبش وتفرغ أسوة بغيرها من الذكريات المدونة؟ للأسف أقولها وبمرارة وحزن شديد، فلقد أخذتنا متاعب الأيام وشقائها بعيداً، وفيما نحن نتحين مستقراً لعاصفة لا تهمد أو تنتهي وإذا بنبأ الفاجعة يباغتنا برحيل هامة وطنية ونضالية إثر مرض لعين ألزمه فراشه إلى أن جاءته المنية.
وداعاً أيها الرجل الحكيم الشريف، لقد كنت إنساناً نقياً ونظيفاً، وصفة الشرف كفيلة بمنع صاحبها من الدناءة وفق مقولة لهارون الرشيد، أدرك معنى فقدانك وخسارتك، كما وأعلم جيداً مقدار صمتك وصبرك، ففي أحايين كثيرة يضطر الإنسان التضحية بلحيته كيما يحتفظ برأسه، حزننا شديد وخسارتنا فادحة، عزاؤنا هو أنك عشت ومت بشرف وكرامة، وعزائنا هو سيرتك العطرة الفائضة بالمحبة والخير والإيمان والنزاهة والورع والتواضع والنبل.
فالسبيل الوحيد لجعل البشر يتحدثون عنا خيراً هو قيامنا بعمل طيب، وأنت أيها الراحل من هذا الصنف النادر الذي لا يشعر الناس بخسارتهم سوى بعد رحيلهم، فطوبى لك وليسكنك الله جنانه وليظلك برحمته ومغفرته إنه سميع مجيب، وليلهم أبنائك وأهلك وذويك الصبر والسلوان وإنا لله وإنا إليه راجعون (قُل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا، وعلى الله فليتوكل المؤمنون).
محمد علي محسن
رحل الرجل وفي نفسه شيئ لم يقله !! 2679