واقع الحال يبدو أنه أكبر من أن تفهمه وتستوعبه مدارك وعقول من يتصدروا المشهد، ويعول عليهم إدارة عملية انتقالية بهذا المستوى والأهمية.تذكروا جيداً أننا مررنا بمثل هذه اللحظة التاريخية الفارقة ؛ لكننا مع ذلك لم نحسن التقاطها واستغلالها مثلما ينبغي، إذ لا يكفي هنا أن يكون لديك مجتمع متحفز ومتوثب لأي عملية سياسية هدفها الانتقال أو التغيير والإصلاح لمنظومة عتيدة وبالية، فالمهم في هذه الحالة يكمن بقدرة الأداة السياسية على فهم وإدراك طبيعة المهمة المنوطة بها، وابتداع السبل الناجعة لتحقيقها.
لو أخذنا مثلاً التوحد السياسي بين الدولتين عام 90م وما تلاه من أزمة وحرب كارثية ومشكلات سياسية واقتصادية مازالت ماثلة اليوم ؛ سنجدها جميعاً نتاج إخفاق النخبة السياسية الحاملة لفكرة الاندماج والتعايش في كنف كيان واحد، فالفرصة حينها كانت سانحة، والمجتمع متحفز ومهيأ لبلوغ المستقبل المنشود، لكن بالمقابل الحامل السياسي لم يكن عند مستوى الفكرة والمسئولية والثقة والجهوزية كي يعبر بشعبه ووطنه صوب غايته المرجوة .
وحين تكون الفكرة والمهمة أكبر من حاملها السياسي بكل تأكيد مآلها الوقوع في مشكلات مجتمعية وسياسية لم تكن في حسبان الجميع،فما نراه اليوم من مشكلات قاصمة لفكرة الدولة الواحدة ولطبيعة المرحلة والمهمة هي في الأساس نتيجة حتمية لذلكم التفاوت الشاسع والكبير بين ضخامة استحقاقات المهمة الوحدوية الانتقالية التاريخية وبين هُزال وضعف الأداة السياسية الموكل لها تجسيد فكرة التوحد، فيما هي غير مؤهلة وقادرة لمهمة تعد أكبر من حجمها وتفكيرها.
اليوم أجد المسألة تماثل لحد ما حالة الفراغ السياسي الناتج ثورات الخريف الأوروبي 89م،إذ ذاك عُدَّ التوحد طريقة مثلى للهرب من استحقاقات سياسية وديمقراطية أتت بها رياح التغيير القادمة من دول المشرق الأوروبي، فبدلاً من التعامل بواقعية وموضوعية مع ما حدث في رومانيا وبولندا وألمانيا وغيرها من دول المنظومة الشمولية؛ رأينا قادة الجنوب والشمال يفرون إلى الإمام، ومن خلال ركوبهم موجة توحد سياسي تم حبكه وصياغته بمثالية وأنانية أساسها حسابات نفعية ذاتية بعيدة الصلة بالمصلحة الجمعية.
القوى السياسية المثقلة بالصراعات والثارات الماضوية ليست مؤهلة الآن لمهمة كبيرة كهذه التي يستلزمها نمط آخر من القيادات، ومن الأفكار ومن الوسائل، لا يمكن أن نتحدث عن حوار وطني ودولة اتحادية ديمقراطية، وعن دستور جديد، وجيش قوي وحديث، وانتخابات حرة ونزيهة، واحزاب سياسية ؛ ومن ثم تكون أداة التنفيذ عقيمة وعاجزة عن فهم واستيعاب هذه المفاهيم.
نعم فكثير من هذه القيادات ربما بمقدورها التوافق أو عمل هدنة أو حتى الاتفاق على قوائم اللجان الانتخابية، لكنها وإذا ما تعلق الأمر بإنجاز مهمة تاريخية واستثنائية، وبالتقاط الفرصة الراهنة كيما يعبر الوطن وينتقل من حالته المتخلفة إلى المستقبل المأمول؛ فإنها ليست مؤهلة للقيام بهكذا دور ومهمة هي أعجز من أن تحملها على عاتقها، وأكبر من أن تدركها وتستوعبها.
البعض يتعجب كيف أن اسكافيا مثل لولا دا سيلفا رئيس البرازيل الأسبق أو خوسيه ازنار رئيس حكومة اسبانيا الأسبق أو مهاتير محمد أو رجب طيب أردوغان أو غيرهم من الأسماء المعاصرة التي يحسب لها وضع أوطانها على جادة الدول الناهضة وخلال مدة وجيزة ؟.
إننا نتحدث وبإسهاب مكرر وممل عن معجزات اقتصادية وتكنولوجية وتنموية وصناعية تحققت على يدي هؤلاء الرؤساء،فقلما تجد شخصاً يحدثك عن خلفية هؤلاء الثقافية والعلمية والفكرية والنضالية التي صنعت من خياط أحذية زعيماً تاريخياً، ومن بائع البطيخ نموذجاً مشرفاً يقتدى به، ومن طبيب أطفال واحد من عمالقة الاقتصاد والإدارة الحديثة ! فما من ريادة وما من نهضة وما من أزمة وكارثة – أيضاً - تأتي بغتة ودون مقدمات ودون قيادة سياسية ؟
المسألة هنا لا تتعلق فقط بتوافر الفرصة المناسبة وبكون الفرد العادي مهيأ أم رافض؟ لكنها ذات صلة بحامل راية العبور والانتقال الى المستقبل، حين أقارن ما بين تجربة جنوب إفريقيا أو اسبانيا أو كوريا الجنوبية أو الهند أو تشيلي أو أو أو الخ من الدول التي قدر لها اجتياز مرحلة شاقة وصعبة؛ فلا أعثر على نخبة سياسية وكاريزمية تضاهي تلكم القيادات السياسية الاستثنائية، هذا الفقدان للقيادة الحيوية الملهمة والقوية سيكون له أثره السلبي على مجمل العملية الانتقالية.
فإذا ما ظلت المرحلة الراهنة على هذا المنحى العبثي الغوغائي المتوجس الجزع المخاتل الطافح بالتكتيكات الأنانية والحسابات الضيقة ؛ فان الحوار الوطني القادم لن يكون إلا مشكلة جديدة أكبر واخطر من المشكلات القائمة المدرجة في أجندته، فالحوار المزمع أن يتصدى لمسائل وطنية ماضوية أثقلت كاهل البلاد والعباد صار أشبه بحلبة نزال بين خصوم يتربص بعضهم بعضا، فالمهم في هذه الحالة كيف يوقع خصمك وكيف تذله وتجبره للخنوع ؟.
فالواقع يشير إلى تكرار الخطأ الفادح والجسيم الذي وقع للتوحد قبل عقدين ويزيد، قد تكون صورة التوحد مختلفة نسبياً من جهة شكلها وحجمها، لكننا وإذا ما نظرنا لصورة المرحلة الحالية فسنجدها تماثل الأمس في جوهرها ومحتواها وظرفيتها الناشئة، ففي الحالتين يكاد قاسمها المشترك واحد ويكمن بتخلف الموحدين أو المتحاورين، فحين تخلفت أداة التوحد عن مجاراة تلكم المرحلة الناشئة عن ثورات أطاحت بأنظمة ديكتاتورية ؛ كان من تبعات هذا التخلف توحد لم يدم وقتاً حتى برزت مشكلاته وصراعاته.
المرحلة الانتقالية الآن أجدها تشبه لحد كبير الأمس البعيد، فهناك هوة سحيقة ما بين مثالية فكرة الانتقال السياسي والمجتمعي والوحدوي وبين موضوعية الافتقار للحامل السياسي الذي بمقدوره أخذ زمام المبادرة وإدارة المرحلة بناء ومقتضيات الدولة الجديدة التي ينشدها الجميع، هذا العوز الشديد للسياسي المتخلق من روح اللحظة الثورية المفعمة برغبة الانتقال من حالة الجمود والتخلف إلى سياق متطور وأفضل؛ بدوره سيبقى الباب مشرعاً على مشكلات جديدة، إذ ستعد عملية الانتقال - الحوار وهيكلة الجيش وصياغة الدستور وبنيوية الدولة - مجرد توقف لاستعادة نفس، ومجرد طريقة ماكرة وملتوية لحمل الدولة المنشودة القادمة مشكلات وأزمات ماضوية مضاعفة .
محمد علي محسن
انتقال ولكن بقيادة مثقلة بالثأر والهرب !! 2198