ما يحدث في مصر المحروسة يعد نتاج مشكلتين جوهريتين يعاني منها الفكر الإسلامي السياسي الذي يمثله الإخوان ورئيس الدولة المنتخب د/ محمد مرسي وكذا القضاء وسلطته واستقلاله والذي يمثله هنا النائب العام عبد المجيد محمود وقضاة الجمعية العمومية لنادي القضاء المصري . نعم فما نراه اليوم في مصر لم يكن إلا نتيجة طبيعية لعلة مزمنة عانى منها الإخوان وتنظيمهم والقضاة وسلطتهم ، ففي الحالتين نحن إزاء حركة سياسية تم حظر نشاطها فلم يتح لها ممارسة السلطة كما هو حالها الآن ، فمنذ نشأتها على يد مؤسسها الشيخ حسن البناء 1928م وجماعة الإخوان ما بين مطرقة العمل السياسي السري وبين سندان نشاطها المجتمعي الدعوي الخيري .
يقابل هذا الحظر والإقصاء للإخوان توجد سلطة قضاء لم تعثر على استقلاليتها وفاعليتها مثلما هي عليه الآن بعيد ثورة 25يناير 2011م ،فمنذ نشأة وتأسيس القضاء في عهد محمد علي باشا والقضاء المصري يعاني من وطأة الاستبداد السياسي ومن سطوته وتدخلاته الفجة المنتهكة لمبدأ المساواة أمام العدالة .
فيكفي الإشارة هنا إلى أن القضاء المصري ربما مثل حالة متقدمة من حيث كونه نزيهاً ومحايداً في القضايا الجنائية والمدنية المحضة أما وحين تكون هذه القضايا لها صلة وعلاقة بالسياسي والحكم عامة ؛ فإن القضاء المصري ليس محايداً ونزيهاً في أحكامه القضائية ,إذ أن كثيراً ما تدخلت السلطة التنفيذية في مجريات التقاضي ولعل سجن الدكتور أيمن نور مرشح حركة كفاية في انتخابات الرئاسة 2006م لخير برهان ودليل على ميزان العدالة المختل في القضايا السياسية .
ما من ثورة وما من تظاهرة وما من مشكلة تأتي هكذا ودون أسباب أو مقدمات ! على هذا الأساس يمكن وصف المشهد المصري بأنه نتاج حالة من التصادم والتضاد ما بين قوتين وفكرتين ولكل واحدة منها ارثها الماضوي الثأري والعدائي تجاه الآخر, كما وان لكل منها تطلعه ورؤيته وفلسفته وطريقته وأداته تجاه إدارة الحاضر الثوري الديمقراطي الانتقالي باعتباره محطة مهمة وأساسية في عملية الانتقال والعبور إلى الدولة المصرية المستقبلية .
البعض يسأل وببراءة : أليس هنالك ثمة خيار ثالث يمكن التوافق عليه بين الإخوان ومن سائر في فلكهم وبين القضاة ومن لف لفهم ؟ ألم يثور هؤلاء على نظام عسكري عائلي فاسد مستبد ؟ وكيف يمكن لليبرالي معروف بمناهضته للنظام العسكري القمعي السابق تفضيل جنرالات المجلس العسكري عن رئيس شرعي ومدني جاءت به صناديق وساحات وتضحيات ثورة 25يناير 2011م ؟.
كيف أن المجلس العسكري من حقه إصدار إعلان دستوري فيما رئيسٌ منتخبٌ ليس بمقدوره وقف حالة العبث والفوضى ؟ فالواقع المشاهد اليوم في مصر يمكن تفسيره على هذا النحو : قوتان صاعدتان بالتوازي لكنهما يتقاطعان ويصطدمان حول ماهية الدولة المنشودة ! فلكل من الاثنين خلفيته وفلسفته وإرثه وصراعه وإيديولوجيته وثقافته وحتى هواجسه وقلقه من هيمنة واستبداد الآخر
الواقع المصري بكل تأكيد سيترتب عنه - سلباً أم إيجاباً – الكثير من النتائج على مجمل الحالة العربية ، فسواء اتفقنا أو اختلفنا مع فرقاء الحاضر المصري ؛ فإنه ما من شك بتأثر المجتمعات العربية عامة والثورات الشبابية الشعبية خاصة بهذا الذي يجري في مصر ويعده البعض وكأنه مجرد مشكلة وطنية طارئة, بينما هو في جوهره يمثل أزمة دائبة ومستفحلة يعاني منها المجتمع العربي تحديدا والفكر السياسي القومي والإسلامي كليا ..
فالحال أن ثورة 23يوليو 52م كان من نتائجها ثورات تحررية في أكثر من بلد عربي، تلكم الثورات العربية كانت فاتحتها ثورة الضباط الأحرار في مصر ،لا أريد التحدث عن إخفاقات أو نجاحات تلك الثورات ، لكني فقط أشير هنا إلى نهاية غير لائقة ومشرفة مازلنا نجهد أنفسنا لكتابة تاريخ جديد وإن بطرق مختلفة .
ليت كانت المسألة تتعلق بإعلان الرئيس مرسي أو بيان النائب العام المقال عبد المجيد محمود ! ليت كانت المشكلة مقتصرة على جمعية صياغة الدستور أو باستقلالية المحكمة الدستورية ! إننا إزاء فكرتين متنافرتين متصارعتين طوال أكثر من نصف قرن ، وإزاء طائفتين غير آهلتين لحمل راية التغيير السلمي الديمقراطي الحضاري .
أحزاب قومية ويسارية وليبرالية – مع اعتراضي بكونها بحق ليبرالية – تحركها أنانيتها وخيبتها الفكرية والموضوعية والذهنية ، ومخاوفها التاريخية والثقافية والإقصائية ، يقابلها أحزاب إسلامية محافظة متزمتة يسوقها عقمها وجمودها وتكوينها ونشأتها ومرجعيتها الفكرية والفقهية المحتكرة لنفسها حق تمثيل الإسلام وتطبيق مبادئه وأحكامه ونصوصه .
أحزاب وقوى تتمترس خلف شعار "سلطان القضاء النزيه العادل والمستقل" فيما هي في حقيقة الأمر تود إسقاط الرئيس مرسي ، وحل برلمان الإخوان والسلف ولو اقتضت المسألة انتخاب أحمد شفيق أو عودة المجلس العسكري ، وبالمقابل إخوان وسلف وجماعة تقف وراء رئيس شرعي ومنتخب فيما هذه المكونات جميعها لا تدرك حقيقة أنها باتت معضلة مؤرقة للدولة المدنية الديمقراطية الحديثة .
في الحالتين نحن أمام قوتين لم تستطع مغادرة ثأرهما وصراعهما وهواجسهما كي يعبرا بسلام ووئام إلى المستقبل ، فكرتان ربما كان بمقدورهما التوافق على إسقاط رأس النظام ؛ لكنهما ومن جهة ثانية فشلتا في ابتداع طريقة ما تمكنهما من التعايش والقبول ببعضهما ،قوتان يحركهما خلاف الماضي أكثر من أن يحركهما الاختلاف حول المستقبل .
محمد علي محسن
مصر.. خلاف الماضي أم حلم المستقبل؟ ! 2415