بغض النظر عن تقيمينا للأوضاع غير المستقرة التي تعيشها بلادنا في الوقت الراهن والتداعيات الناجمة عن أحداث العام الماضي وإفرازاتها الكبيرة والكثيرة التي انعكست سلباً على مختلف أوجه الحياة السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية.. وبصرف النظر أيضاً عن الأخطاء التي أدت إلى هذا الوضع المربك الذي نسعى إلى تجاوزه والخروج من دائرته المحبطة عبر بوابة الحوار الذي يبدو أننا على مشارف عتباته وبالقرب من موعد انطلاقته.. فإن الأخطر من كل ما جرى ويجري اليوم هو أن ندخل مؤتمر الحوار تحت تأثير الطابع الجهوي والانقسام الشطري الذي كرسته مع الأسف (مناصفة التمثيل) بين الشمال والجنوب .. ولا ندري من كان وراء هذه الفكرة الجهنمية؟ ومن دفع بنا إلى هذا الفخ؟ وكيف مر هذا التوصيف الخبيث على أصحاب العقول النيرة والرؤية السياسية الناضجة من أعضاء اللجنة الفنية لمؤتمر الحوار؟.. رغم إدراكهم أن هناك من سيقوم باستغلال هذا التوصيف لتصوير ما يحدث في اليمن وكأنه صراع بين كيانين وبين هويتين ونسيجين اجتماعيين وأن الحوار ليس حواراً داخلياً وإنما تفاوض بين طرفين لكل منهما قضاياه وأجندته المختلفة عن الآخر.
وبالفعل فما تخوفنا منه قد حدث, حيث سارعت بعض العناصر الانفصالية إلى اعتبار مبدأ (مناصفة التمثيل) ليس أكثر من إقرار بالتنافر الحاصل بين الشمال والجنوب وان هذا التنافر لن يعالج إلا من خلال الانفصال وليس الوحدة.. والأكثر من هذا فقد وجد هذا الطرح البائس والمتطرف من يروج له في وسائل الإعلام وفق تأصيل يقوم على دحض يمنية الجنوب والقول بأن الوحدة اليمنية لم تقم بين شعب واحد في دولتين وإنما كانت بين دولتين وشعبين مختلفين في الهوية والتاريخ والحضارة والثقافة.
ولا أتصور أن يهبط مستوى الفهم لدى البعض إلى درجة يظن فيها أنني لست مع أن يحصل الجنوب على نسبة الـ 50% من قوام مؤتمر الحوار, لأن ما أقصده ليس ذلك, بل على العكس من ذلك, فقد كنت أول من دعا عبر إحدى القنوات الفضائية لأن يمثل الجنوب في مؤتمر الحوار بنسبة تزيد عن 50% ولكن مالا أقبله لليمن واليمنيين جميعاً في الجنوب والشمال والشرق والغرب هو التخندق تحت مسميات جهوية أو مناطقية, مذهبية أو طائفية.. داخل مؤتمر الحوار أو خارجه, لقناعتي بأن الحوار هو قيمة أخلاقية تتقاطع كلياً مع المفاهيم الضيقة والدوافع الانتهازية والرغبات الفئوية والجهوية والعصبوية المقيتة والمصطلحات والتعبيرات التي تنتج الفرقة والتباعد والصراعات العبثية العقيمة.
ومن هذه القناعة فإنني أتفق تماماً مع الدكتور/ محمد احمد الأفندي- رئيس المركز اليمني للدراسات الإستراتيجية- في أن مسار الحوار الوطني لن يستقيم من دون تخليه عن فكرة الاصطفائية سواء كانت اصطفائية جهوية أو اجتماعية أو اصطفائية سياسية أو دينية, حيث أن هذه الأشكال من الاصطفائية لا تولد حواراً متكافئاً وإنما حوار إذعان.. كما أنها لا تولد حقوقاً ومصالح مشتركة وإنما تفرض حقوقاً ومصالح خاصة عصبوية أو فئوية, جهوية أو عنصرية, من شأنها أن تدمر المصلحة العامة للشعب وهي في النهاية لا تسوق إلى حوار ناجح ومثمر وإنما إلى حوار فاشل يؤجج الصراعات ويخرب العلاقات ويعمل على تمزيق النسيج الاجتماعي ويقتل مقاصد التوافق في داخله.
وعليه: إذا كان الهدف من الحوار هو أن نتجاوز المحنة التي يعيشها اليمن وأن نواجه الأخطاء التي رافقت مسيرة الوحدة بكل شجاعة, فان ذلك يقتضي أولاً التحلي بالوعي والإدراك بأن سرطان الانفصال لا يستهدف اليمن فحسب, وإنما كافة الأقطار العربية وأن هذا السرطان في انتظار فقط من يحركه تحت دوافع لا يمكن أن توصف إلا بالخيانة العظمى.. ومن هذه الحقيقة فقد آن الأوان لكي يتوقف خلط الأوراق ولغة التضليل التي تمارسها المواقع الالكترونية الممولة من العناصر الانفصالية والتي تبث سمومها من داخل اليمن مستهدفة هوية الشعب اليمني وتاريخه وحضارته ونسيجه الاجتماعي..
إذ كيف يستقيم أن ندعي الوطنية والاعتزاز بالانتماء للهوية اليمنية ونحن نسمح لمجموعة مأجورة باستغلال حرية الرأي والتعبير في إثارة النعرات الجهوية والشطرية وإفساد عقول الشباب ودفعهم إلى إنكار هويتهم والتنصل عن يمنيتهم؟ وهل من المنطق أن نرى عشرات الأحزاب التي تملأ يافطاتها شوارع العاصمة والمدن الرئيسية تتصدر المشهد السياسي اليمني فيما هي تلوذ بالصمت تجاه ما يصدر عن البيض والعطاس وباعوم من هراء وأكاذيب وزيف وتطاول على هوية أبناء المحافظات الجنوبية, بل انه وبدلاً من أن تتخذ هذه الأحزاب وقياداتها موقفاً واضحاً من تلك الأطروحات البذيئة والحاقدة, نجد بعض نخب هذه الأحزاب تبرر تلك الأطروحات النشاز التي تتاجر بوحدة اليمن وثوابتنا الوطنية حتى اعتقد البعض خارج اليمن أن البيض والعطاس وباعوم هم من يمثلون أبناء الجنوب؟.. وبأي منطق يمكن تفسير صمت هذه الأحزاب أمام قلة تريد احتكار الحديث باسم الجنوب؟.. وكيف لهذه القلة أن تتحدث باسم الجنوب ورئيس الجمهورية جنوبياً ورئيس الوزراء جنوبياً ورئيس السلطة القضائية جنوبياً ووزير الدفاع ونصف قوام الحكومة الحالية من أبناء الجنوب ؟ وهل من الواقعية أن يختزل الجنوب في أسماء كالبيض والعطاس وعبدالرحمن الجفري فيما أن الآلاف من أبناء الجنوب في كل الأحزاب القائمة كالمؤتمر والإصلاح والاشتراكي والناصريين والبعثيين و..و.. الخ؟..
صحيح حدثت أخطاء في الجنوب ولكن أيضاً قد حدثت أخطاء مماثلة في الشمال, فالكل شرب من ذات الكأس وعانوا من نفس الإشكالات والكل عاش ويعيشون وسط ذات المعترك والكل تجرع من تلك الظروف والكل يتذمر من سياسة واحدة والكل في ورطة ويتطلع للخروج منها.. فمن ذا الذي يشق عليه حيف الدولة وصراع الأحزاب على السلطة؟ .. من منا لم يتضرر من انفلات الأمن وسوء الإدارة وغياب الخدمات الأساسية؟ ومن منا لم يكتو بنار الخلافات السياسية والأيدلوجية والفساد المالي والإداري؟.
وطالما وأن المعاناة واحدة فإن الحلول ليست بالانفصال ولا بالانقسام ولا بالانتحار الجماعي وهدم المعبد على رؤوس الجميع وإنما بالتمسك بالوحدة, باعتبارها سفينة النجاة لكل أبناء اليمن الذين يأملون في أن يشكل مؤتمر الحوار الوطني فاتحة لزمن جديد ومرحلة مختلفة عن كل المراحل الماضية.. وإذا ما صدقت النوايا فإن الحلول ممكنة والمخارج متاحة.. فأزمتنا في اليمن ليست الوحدة وليست أزمة هوية وإنما أزمة ضمير بكل ما في الكلمة من معنى!.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
علي ناجي الرعوي
ليست أزمة هوية.. وإنما أزمة ضمير!! 1981