في جلسة جمعتني بأحد الوزراء في حكومتنا المبجلة, دار بيننا حديث حول التغيير ومهام المستقبل, وبشفافية وطابع يغلب عليه خفة الروح قال الوزير:( يا عزيزي تغيير أيش الذي تتحدث عنه بلا تغيير بلا وجع رأس).. وحين سأله أحد الزملاء: ماذا تقصد بكلامك؟ رد ضاحكاً:(بالله عليك أنا الآن في الوزارة أنجز العمل تمام التمام لو أحدثت تغيير وعينت مثلاً مسؤولين آخرين حتى ولو كفاءات لدخلت في احتجاجات ودعوات للإضراب ومراضاة ووساطات ولا ينتهي يومي إلا بحريق أعصاب, فأحسن لي الوضع كما هو والأمور تمشي ولاحد بيحتج ولابيقاضيك..أين أفضل هكذا تمام التمام وإلا نقلبها تغيير وثورة ونطيح وشطيح ؟).. بالمناسبة الوزير محسوب على المشترك وليس المؤتمر وجيء به بفعل ثورة التغيير التي لا يراها ضرورية, وأن المهمة توقفت عند إبطال التوريث, ماعدا ذلك فكل شيء تمام..
من خلال كلام الوزير يتضح أننا إزاء تفكير برجماتي بحت، وأن الثورة صارت مجرد حكاية على الشفاه، وأن شعار" ليس في الإمكان أحسن مما كان" هو الأبرز.. هكذا نجد ثورة الشباب يختزل حالها وزير أكثر صراحة وصدق، كما يشير إلى حالة تعيش عليها الحكومة وهي البقاء كما هو الوضع ولا جديد والإعلاء من خطاب التوافق والانسجام والتسامح وطي صفحة الماضي، كما أشار الوزير إلى هذا المعنى بسخرية لاذعة وهو صحيح فيما يذهب إليه.
فالواضح أن وزراء حكومتنا الرشيدة استخذوا للوضع الحالي، وصاروا ينعمون بكراسيهم الدوارة، ووجدوا أن بقاء الحال كما هو أفضل وسيلة لجلب المنفعة وراحة البال ودرء ما يأتي من التغيير والتدوير من عداء وسخط ورفض ووجع رأس وقلب دماغ.. ولست أدري لما تكرست هذه الثقافة الانتهازية؟! مع شديد اعتذاري للوزير الأكثر صدقاً من غيره والذي كان يسخر من كل كلمة تشير إلى الثورة ويراها نوعاً من الطوباوية وفورة شباب, كما سماها بعظمة لسانه حين قلت:(ثورة الشباب ترفض تمييع الأهداف )..فرد ساخراً:(قل فورة الشباب التي لابد من تهدئتها كل ما تسخن, فالشباب قوة صاعدة لا يعرفون غير القفز على الواقع والمطلوب التمهل والمداراة وتفويت الغلط إن وجد وغض النظر عن إهمال حدث وهكذا وإلا والله ما تجد صاحب لك وتخرج من الوزارة والكل أعداؤك واحنا لسنا "اليسوع المخلص" الثورة لها رب يحميها)قالها ضاحكاً..بهذا المنطق الذي يكشف عن السائد داخل الحكومة..
من هنا، يتضح لنا لما القضايا الشائكة تزداد تعقيداً والتغيير لا معنى له والكفاءات والمواطنة المتساوية مجرد شعارات، فجميع حكومتنا لا تريد أن تزج بنفسها في ما يصيبها بدوار ويأخذ من وقت راحتها وتنكد على نفسها من أجل إصلاح خطأ أو تطوير الأداء وتحسين مستواه واختيار الأفضل، فكل هذا ليس سوى تعكير لصفو الحال ومعاناة تنغص القيمة الذهبية للكرسي الذي يشغله الوزراء ويتنعمون بطريقتهم الذكية في التغاضي عن السابق من فساد وحتى دم والبدء بصفحة جديدة من الوئام والسلام، غير أن هذا البدء هو بنفس القوى الفاسدة وبذات الوجوه التي كانت عقبة في طريق التغيير.. ويبدو أن تصالحاً غير معلن يجري العمل به بين وزراء الثورة والنظام السابق.
ولا عجب والحال هكذا أن يبقى الفساد سيد الموقف ويزداد اضطهاد الذين وقفوا مع التغيير والثورة وتجري محاسبتهم بطريقة ذكية, في أقلها تجاهلهم كقوى وطنية والنظر إليهم كفوضويين, كما قال هذا الوزير في معرض حديثه: (يا أخي خلينا من الإدعاء الذي لا يقدم ولا يؤخر, الثورة اليوم تحتاج إلى التعامل بالخبرات وليس بالقوى التي تجيد الفوضى) وهو يلمز إلى شباب التغيير بالفوضى في حين من مارسوا الفساد وكانوا وكره القوي هم الذين يمتلكون الخبرات والكفاءات ويجب التعامل معهم باعتبارهم اليوم في موقع ضعيف لا يوجد أمامهم سوى الإنصياع للتوجيهات والعمل كما يريد المسؤول الأول في الوزارة, أو تغييرهم بحجة التدوير والإصلاحات وما اندرج تحت هذا المعنى .
وبهذا التفكير يجري ابتزاز الفاسدين وإبقاؤهم تحت التهديد والسير في طريق الإستفادة معاً, سلوك لا يرقى إلى مستوى ما هو أقل من الطموح وتعامل مع الموظفين ومن أعلى منهم شأناً بدراية عجيبة وابتزاز غير معهود ويتحول التغيير إلى لافتة للكسب الملتوي.. هذا ما نراه اليوم من مهادنة لقوى الفساد ومن تصالح عجيب ورفض لأي تغيير, بحجة أن الوضع غير مناسب والواقع لا يساعد على ذلك وأنه لا يصلح إلا التعايش مع الفاسدين والبدء معهم بصفحة جديدة.. هكذا حكومة ارتقت إلى مستوى غير معهود على حساب دماء الشهداء وأنين المظلومين وآهات الجرحى, هي اليوم تقف في خندق الدفاع عن الماضي ومن وزراء ثورة التغيير.. إنه التعب كله حين نرى ثورتنا اليوم يمارس عليها القهر والسخرية والتواكل ومهادنة الظلم وابتزاز الفاسدين والتعامل معهم في قضايا خطيرة هم أصحاب خبرة بها والحاجة للفساد ما تزال قائمة ولا يمكن أن يتم بقوى نضالية.. من أجل هذا يرفع شعار تناسي الماضي والبدء بصفحة جديدة بالقوى الفاسدة المتكلسة ويحارب المتطلعون للأفضل, من وقفوا من أجل فعل التغيير واقعاً وليس شعاراً, لممارسة الانتهازية..
وما يلوح اليوم في الأفق أن ثمة وعياً حقيقياً يزداد يوماً إثر يوم لإعادة الثورة إلى سياقها الصحيح بعد أن تلاعب بها وزراء وما بعد وزراء وجرى تميع التغيير وإدانته بالفوضى الغير مرغوبة.. الثورة اليوم يبدو أنها في حاجة لقلب تربتها وسبر معانيها من جديد، ولعل ما يجري في مصر من متغيرات سيتلاحق إلى هنا, ما لم تدرك قوى الابتزاز أنها في طريق مسدود وأن التغيير اتجاه إجباري.
محمد اللوزي
بعض مما قاله الوزير 1774