كشفت الأحداث التي شهدتها مصر مؤخراً الخاصة بالإعلان الدستوري بين مؤيد ومعارض، عن ثقافة ضيق بالآخر, نشهده نحن في تعصباتنا الهوجاء مع وضد (مرسي ) وهي تعبير غير عادي عن احتقان في النفس برز بقوة في ما تابعناه على الـ (فيس بوك) كنموذج.. والذي قدم صورة مخيفة لدى كل طرف وعلى وجه الخصوص القوى الليبرالية والتي تدعي العلمانية وأنها تنحاز لقيم الديمقراطية وتعلي من شأنها، وهو ما لم نجده في أول اختبار عن معركة الإعلان الدستوري السياسية.
ففي بلادنا وجدنا هذه القوى الليبرالية تذهب في السخرية بـ (مرسي) إلى درجة لا تليق بالطبيعة البشرية وترفض أي نداء للعقل وتقاطع الصح وتزيد من الغلط لا لشيء سوى أن (مرسي) من الإخوان المسلمين.
ولعل هذه الحدية والموقف المتشنج يضع القوى الليبرالية في مستوى لا تحسد عليه, فالثقافة التي تتوخاها وتقول بها وترفع شعارات الديمقراطية بالطول والعرض، هذه الثقافة تحولت إلى مرابية ومجرد زيف وإعلان ضدية وبطريقة فجة لا تليق بالمثقف.
ولعل هذا المشهد الغير سوي يشكل في أحد ملامحه, معنى لماهو قائم في الوطن اليمني وإن أحداً لا يستطيع الإصغاء لأحد، وأن المواقف المسبقة والأحكام الجاهزة هي التي تحضر وهي التي تلغي العقل.. وبهكذا معنى يبقى الوطن مجرد مزايدة لدى الليبراليين الذين لا يقدرون على التعايش مع الآخر ولا يسلمون بنتائج الصندوق ويسعون إلى النيل من الإسلامي بشراسة لا تليق أبداً بالإنساني كمعنى, وهو ما يجعلنا نؤكد على أهمية فهم القوى الليبرالية لمكونات المجتمع اليمني وأهمية استيعاب الآخر والتعايش المجتمعي،فالوطن لا يقبل المزيد من الشروخات والانقسام والإدانات والتهم التي تصدر جزافاً لمجرد أن هذا إسلامي وذاك علماني.
ولاشك أن المثقف المتصلب، المجاهر بالعداوة لكل ما لا يتلاءم مع هواه يتحمل المسؤولية الأولى في زرع الأحقاد وخلق خصومة لا مبرر لها، وأنه من يعمل على محق الجمال وتلويث مناخ الديمقراطية بترسبات نفسية ومواقف متصلبة،بما يجعلنا نقول إن ثمة خيانة حقيقية حتى للعلمانية التي في جوهرها تبنى على احترام الحقوق والحريات وعلى التعايش بين أفراد المجتمع وعلى التعامل بروح ديمقراطية ورفض الاستلاب بكل أشكاله، هذا على الأقل ما نجده في العلمانية الغربية التي تمتثل للقانون وتحترم الإنسان بمعزل عن لونه أو دينه أو جنسه،ولنا أن نرى إلى تعايش المسلمين في أوروبا مع الغير مسلمين والذين يجدون احتراماً لوجودهم وتواجدهم وحتى للمتشدد مالم يخترق قانوناً أو يسبب إيذاء لأحد.
هذا الفهم أو السلوك لا نجده لدى من يقولون بالعلمانية على الأقل في البلدان العربية ومنها بلادنا، فـ (مرسي )الرئيس المصري متخلف ومتحجر...الخ, الكلام ليس من مواقفه ولا من اختراقه للدستور والقانون ولكن لأنه من الأخوان المسلمين, لذلك هو لا يستحق حتى الحياة وكل من يمت إليه بصلة هم أعداء التطور, وقلة من المثقفين يحترمون العقل وليبراليون بوعي وانتماء حقيقي لما هو نبيل وإنساني.
نستحضر هنا الأستاذ (محمد حسنين هيكل )الذي قال (أختلف مع الأخوان المسلمين وعلينا أن نحترم الانتخابات) هذا الوعي المفقود - والذي نرجوه - لم نجده إلا فيما ندر, بما يجعلنا نقول إن الهوة واسعة في مكونات المجتمع اليمني وأن الضرورة تستدعي التبصر والرؤية العميقة لكيف نكون بشراً أسوياء ونحترم الصندوق وما يسفر عنه من نتائج وأن نتفق على خطوط عريضة في تعاملاتنا وحواراتنا ونعلق الاتجاهات والمواقف المسبقة على المشاجب ونتحاور بروح خلاقة تعكس إنساناً مسئولاً وراقياً يحترم التنوع في إطار الوحدة وينحاز للدستور والقانون وليس للتعصب البليد أياً كان هذا التعصب مناطقياً أو طائفياً وحزبياً أو أسرياً, فالكل هنا عملة واحدة ومخرجاتها سيئة للغاية.
فا(لأخوان المسلمون )ليسوا وجوداً طارئاً ولا نبتاً خارج حدود الأرض، ولا نستطيع العداء لهم ولا يمكن أن نرميهم في البحر ولا ندينهم كعائق للحياة هم فينا وبيننا ولهم حقوق وعليهم واجبات.
ومن هنا ينبغي التعامل معهم،ونرتضي الصندوق بكل نتائجه مالم فإن التخلف هو العنوان الذي يسير فيه التقدمي الحداثي، الذي يريد حكر الصوت واحتكار الحياة وينطلق من مكون ثقافي متكلس لمواجهة قطاع عريض من المجتمع لا لشيء سوى أنه إسلامي, نحن إذاً إزاء إشكالية معقدة، مالم نفهم ما الذي نريد؟ وكيف نتعايش؟ وما معنى الديمقراطية كسلوك حضاري؟.
هكذا يبدو لي الأمر لا يحتمل التراكم الفج ولا العداوة إلى ما لا نهاية والتقاطع مع الصح, فالإعلان الدستوري الذي وقفت ضده قوى متعددة في مصر تدين (مرسي) وتقاوم نصوصاً منه وترفض حصانة الرئيس في قراراته, وترى إلى ذلك نهجاً دكتاتورياً, هذه القوى ـ رغم ما لديها من قناعات قد نوافقها عليه ـ لم تكن في اختلافها مع مرسي حريصة على الديمقراطية بل وجدت في الاختلاف ما تطمح إليه من مجاهرة بالعداء للإسلامي فأخذت تطلق تهماً خارج الإعلان الدستوري،وترتب مواقف غير مسئولة،ولم تحصر خلافاتها بالضبط في (الإعلان الدستوري) وتقدم نفسها بروح ديمقراطية.
وبذات المستوى وأكثر إساءة وتخلفاً برز لدينا الأمر في الوطن اليمني، حيث ذات القوى الليبرالية تغتنم فرصة خلاف حدث في مصر لتقدم ما يجول في أعماقها من نزوع إلى البطش بالآخر وجعله عدواً ينبغي الحد منه والوقوف أمام كل ما يجيء منه, فالكثير من التعليقات التي قدمها مثقفون تقدم صورة مغايرة لما نريد،فالبعض يرى أن الإنسانية غادرت مع مجيء الإخوان وبقيت أحاديث الحيض والنفاس ونتف الإبط،والبعض الآخر يرى أن الحرية والديمقراطية لدى الأخوان كفر وإلحاد ويسحب منهم حق الحياة من حيث إنكار الانتخابات ونتائجها،وهذا البعض من يجاهر بالعداء لكل ما هو إخوني ويتخذ من الطائفية مجالاً لتوصيل رغباته ومعتقداته شيعية أو إلحادية أو ليبرالية, والكثير منها يقفز على الواقع ويرفض التعامل معه..
في المقابل نجد البعض من التيار الإسلامي يتهم الطرف المناوئ لـ(مرسي) أنه فلول ومدفوع الأجر وخائن عميل ولا يحترم التنوع وعدو للأمة ولا يناقش وليس لديه استعداد في الاعتراف بالخطأ ويبرر كثيراً لكل ما ليس صحيحاً ويزيد المأساة بنقل صورة عن الإسلامي أنه ضيق بالآخر ومتحجر, ونقع في كل هذا على اشتباك خطير نتائجه ليست في صالح أحد والخاسر الأكبر هو الوطن.
إن المتأمل لثقافة الكيد وأساليب الاستهداف والمواقف المتسيسة والممنهجة في شق منها، يضع يده على قلبه من تحولات القادم، وما لم يجر فهم لمعطى الخارطة السياسية والدينية في اليمن والوعي بأهمية الشراكة الوطنية ورفض اللغة الجاهزة الإقصائية من أي كان..ما لم يجر هذا ويمارس المثقف مسؤولياته في إنتاج خطاب راقٍ وواعٍ ومنحازٍ لقيم الحق والخير والجمال, فإننا سنشهد ظروفاً عصيبة وسيبقى الوطن على شرف هار.
هذا أمر لابد من إدراكه فما حدث في مصر من تباين وعراك وضحايا عكس نفسه هنا على خارطة وطن لا يحتمل المزيد من الضدية ويبحث عن تفاهمات, ويحتاج الكل في عملية البناء, ولن يقدر أحد أن يزيح أحداً، فالوطن يقبل الجميع وإنما الضيق في النفوس, فهل ندرك أين نحن؟ وما يجب أن نعمل من أجله؟هل نستوعب الآخر بعيداً عن لغة مدمرة تدين وتتشدد وتهزم الحياة في تنوعها؟ لاشك نحتاج لمراجعة خطابنا الثقافي ووضع محددات أخلاقية تؤكد احترام التباين واحترام الاختلاف ما لم يكن منطقياً أو طائفياً أو حزبياً أو أسرياً, ولن يكون هناك حر والآخر مدان, فهل نعي هذا؟ أم سنبقى في دائرة تخوين وشطط ولغة فوضى وتدمير؟أسئلة أرجو أن نلقي بالاً لها....
محمد اللوزي
مصر وثقافة الضيق 1911