أعترف بعجزي عن فهم ما يدور اليوم في بلدان (الربيع العربي) من تصدعات وانقسامات وصراعات ظاهرة ومبطنة وحروب إعلامية منفلتة من كل الضوابط والقيم الجامعة والمشتركة.. إذ أنه من كان يتوقع في يوم من الأيام أن تنقسم مصر الدولة الأقرب للذهن العربي إلى معسكرين (مع وضد) وأن ينقسم الشارع المصري إلى إخوان وإسلاميين وليبراليين وتقدميين وان يصل حجم التباين بين القوى الرئيسية والمحورية إلى حد التصادم والافتراق وأن يتبخر ذلك المشهد الذي رسمته تلك القوى في ميدان التحرير بالقاهرة وغيره من الميادين التي كان يجلس فيها الليبرالي إلى جوار السلفي والعلماني إلى جوار الإخواني والمسيحي إلى جانب المسلم، بل كيف لأي منا أن يتصور أن ينقلب ذلك التفاهم والانسجام بين قوى الثورة إلى خصام وصراع وأن تتغير المواقف من النقيض إلى النقيض ومن الضد إلى الضد ليس من أجل بناء مصر ولكن من أجل أطماع سياسية وحزبية وذاتية.
ويصبح الأمر أكثر استعصاء على الفهم وحتى التحليل ونحن نجد سيناريوهات معارك تكسير العظام في مصر تتكرر على ذات المنوال وبنفس الطريقة في تونس وليبيا واليمن إلى درجة صار فيها أي متابع لما يعتمل في هذه البلدان تائهاً وعاجزاً عن التمييز من الذي على حق ومن على الباطل ومتوجساً خيفة مما قد يأتي ومما قد تفضي إليه هذه المعارك العبثية والسقيمة التي باتت تمس البنية الاجتماعية وتنذر بتحول الانقسام السياسي إلى انقسام اجتماعي يسهل من اختراق هذه البلدان والزج بها في غياهب التناحر الداخلي والتشظي والحروب الأهلية المهلكة.
قد يكون من الطبيعي أن نتساءل عمن يقف وراء هذه الحالة من الاحتقان والانقسام وتفتيت مجتمعات دول (الربيع العربي) إلى شيع وتيارات تكفر بعضها بعضاً ويلعن كل فريق منها الفريق الآخر وبشكل لا ينم سوى عن العداوة والبغضاء وفقدان الثقة.. ولكي نضع أيدينا على إجابة مقنعة تقودنا إلى الفاعل الأساسي وهل هو داخلي أم خارجي أم كلاهما معاً.. فلابد من التأكيد أولاً على أن الاحتقان الذي يطفو على الساحة المصرية والتونسية والليبية واليمنية وإن كان جزءاً منه يعود إلى عدم نضوج العقلية العربية فأن هذا الاحتقان ما كان له أن يصل إلى تلك الحدة من الانقسام والتناحر من دون افتراء هذا الطرف السياسي أو ذك على الطرف الآخر ومن دون محاولة كل طرف الاستحواذ على الكعكة بكاملها.. فالقوى الليبرالية في مصر ترى أنها صاحبة الحق في الزعامة الثورية، فيما تعتقد القوى الإسلامية التي نجحت في كسب رضا الشارع أنها وبموجب اللعبة الديمقراطية صارت مخولة في إدارة شؤون الحكم وتنفيذ برامجها وفق رؤيتها وليس كما يريد خصومها السياسيون الذين تعتقد أنهم قد جعلوا من معركة الاستفتاء على الدستور ذريعة ومدخلاً للتحريض عليها والانقلاب على شريعتها الجماهيرية.
وفي ضوء هذه الحقيقة يتضح تماماً أن العرب لم يتعلموا من أخطاء الماضي وأن صراعاتهم الداخلية على السلطة والزعامة صارت من السمات المتجذرة التي يتوارثونها حقبة بعد أخرى وجيلاً بعد جيل وما نراه اليوم ليس سوى حلقة من حلقات هذا الصراع التاريخي الذي بسببه اشتعلت نار (الفتنة الكبرى) في العصر الإسلامي الأول وبفعله أضعنا الأندلس وتحت تأثيره تمزقنا إلى دويلات وكيانات نثارية قزمية ومقزمة تابعة وليست متبوعة.. كما أننا وفي فلك هذا الصراع فرطنا بسيادتنا واستقلالنا وسلمنا رقابنا للآخرين ليتصرفوا بها كيف ما شاءوا وحيث ما شاءوا وفي نطاق هذه الخصوصية من الصراع ها نحن نستعد لإقامة صلاة الجنازة على سوريا كمحصلة طبيعية لسوءاات الحاكم الفرد الذي لا يرى في المرأة سوى ذاته ولا يفكر إلا في حدود ما يحافظ به على كرسيه وحمايته من السقوط وقد فعل حاكم ليبيا السابق الأمر نفسه حين قرر أن يواجه شعبه بالقتل والتدمير، فاضطر العرب في جامعتهم أن يوافقوا على تدخل عسكري دولي وكـ (كالمستجير من الرمضاء بالنار) ومن قبلهما أيضاً فعل صدام حسين حينما قام بغزو الكويت ونتيجة رفضه الانسحاب من هذا البلد الجار فقد قدم المبرر لأخطر تدخل عسكري دولي ساهم فيه العرب حين لم يجدوا وسيلة لإقناع صدام بالتراجع والانسحاب ولو أن مثل هؤلاء الحكام العرب قد امتلكوا رؤية حكيمة لجنبوا شعوبهم تلك الخيارات الصعبة التي ستبقى جروحاً غائرة في الوجدان العربية.
وعليه فإن ما ينبغي الإشارة إليه هو أن مثل هذه الأخطاء التي يرتكبها العرب هي من سهلت للقوى الأجنبية التدخل في شؤونهم الداخلية وتغذية الخلافات فيما بينهم ومثل هذا الأمر لابد وأن يكون في حسبان القوى الإسلامية التي يتعين عليها أن تستشعر أن الغرب لن يرضى عنها تماماً.. فالولايات المتحدة وان قبلت بوصول القوى الإسلامية إلى الحكم في مصر وتونس فإن ذلك لا يعدو عن كونه هدفاً تكتيكياً إلى حين، حيث وأن ما نعرفه عن السياسة الأمريكية أنها التي تبني تحالفاتها من منطلق مصلحتها فقط.
لقد قرأت قبل عدة أشهر مقالاً لوزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر تحت عنوان (أمريكا والمشهد العربي.. دعوة للابتكار) تضمن تقييمه للمقاربة الأمريكية تجاه ثورات الربيع العربي وقد وصف كيسنجر المسلك الذي سلكته الولايات المتحدة خلال تلك الثورات بالناجح، كونه قد جنبها الوقوف كعقبة حائلة دون حدوث التحول الديمقراطي في المنطقة العربية.. ومثل هذا الحماس منقطع النظير الذي أبداه الدبلوماسي الأمريكي المخضرم هو أمر مستغرب لعدة أسباب تندرج فيها اعتبارات استراتيجية وفلسفية أفصحت عنها العديد من السوابق كان آخرها في العراق وأفغانستان اللذين تعهدت واشنطن بأنها سوف تقيم فيهما نظامين ديمقراطيين يصبحان المثأل الذي يحتذى به في العالم الثالث.. ولكن ما نراه اليوم على أرض الواقع في العراق ليس سوى ديكتاتورية تكرس للصراعات الطائفية والمذهبية والتناحر المميت الذي يصعب معه استتباب الأمن والاستقرار في هذا البلد الذي يتجه نحو التمزق إلى عدة دويلات.. وما نخشاه أن تتحول بلدان (الربيع العربي) إلى حلبة مصارعة تؤدي إلى تمزيق هذه البلدان وانهيارها ويأتي اليوم الذي نبكي فيه على خرابها.
علي ناجي الرعوي
هل سقط (الربيع العربي) في وحل الصراع؟! 2071