الكاتب المفكر محمد حسنين هيكل في لقاء مع قناة " سي بي سي " الفضائية وأجرته الإعلامية لميس الحديدي ؛ قال : لأول مرة أخاف على فكرة الدولة في مصر. وحين سُئل عن ماهية العمل في ظل الإحباط السائد لدى الشعب المصري ؟ أجاب : الإحباط يأتي من رؤية الشباب لقيادة ؛ لكنه لا يرى فكرة، ولا يرى مشروعا أو تصرفاً، وأكثر أسباب الاستقرار هي أن نعرف ماذا يمكن أن يجري غداً، وألا ننتظر المجهول.
حين قرأت هذه الكلمات في صحيفة " الشارع " اليومية نقلاً عن صحيفة " الوطن " ؛ انتابني القلق والهلع من كونه لا يتحدث عن المحروسة مصر - بما تعني لنا كيمنيين وكعرب من قيمة ورمزية وأهمية سياسية وحضارية وثقافية – فحسب ؛ وإنما يحدثنا عن واقع نعيشه هنا في اليمن، إذ لم أقل ترزح لوطأته بلدان عربية أخرى مثل ليبيا وتونس وسوريا ولبنان والعراق وحتى الأردن والبحرين والمغرب والكويت وغيرها.
فسواء كان نظام الدولة ملكياً أو جمهورياً، كان شعبها غنياً أو فقيراً؛ إلا أن جميعها تكاد سمتها واحدة من ناحية هشاشة وضعف الدولة وقابلية مجتمع هذه الدولة للتفكك والاختراق، وكذا من جهة الإحباط القاتل لحيوية وتطلع ملايين الشباب المحبطة نفسياً وذهنياً ووجدانياً، كيف لا وجميعها تخوض معركة شرسة ومكلفة لأجل التغيير ؛ فتكون ثمرة ثورتها ونضالها يأساً وقنوطاً وخشية من القادم ؟.
نعم ؛ الإحباط يأتي من كون الثورات هي في الأول والأخير ثورة شباب طامح متطلع لتغيير صورة وطنه تغييراً جذرياً لا مجرد إزالة صورة نمطية لطاغية، وإحلال صورة جديدة لديكتاتور، فحين أخفق هؤلاء الشباب الثائر في رسم الوجه الجديد المجسد لحلمهم وتطلعهم الذي يتعدى شكل الحاكم إلى جوهر وروح الشعب الثائر؛ كان ولابد من طريقة ما تبقي على جذوة ثورة الشباب مشتعلة بوهجهاً والقها دون انطفأ، إلى أن تحقق وجودها الغائب ردحاً طويلاً، وآن له أن يكون حاضراً وفاعلاً في كل الأوقات.
ليت المسألة اقتصرت على مصر وثورتها البديعة الملهمة ! ليت الحكاية يمكن وجزها بمخاوف القوى المعارضة من سلطان القوى التقليدية ممثلة بالرئيس محمد مرسي ومجلس الشعب، والدستور الجديد! إنها أكبر من أن تختزل بحكم الإخوان أو بمناهضة جبهة الإنقاذ أو حتى بالشقيقة الكبرى مصر.
فالمتأمل في المشهد العربي عامة سيجده معتماً وغامضاً ومحبطاً – أيضاً – فما من نظام سياسي جديد أو قديم إلا ويعاني من مشكلات جمة، دعكم من دول الخليج، فهذه النظم بما لديها من ثروة نفط وغاز ومال ربما ستفلح مؤقتاً بتأجيل ثورات كامنة في وعي وأعماق شبابها ونخبها المثقفة، ومن خلال زيادة إنفاقها على الأجور والخدمات والترفيه على مجتمعاتها قليلة الكثافة (الرشوة الاجتماعية في علم السياسة).
لكننا وحين ننظر إلى واقع الدول العربية الأخرى سنراها تماثل الحالة المصرية أو التونسية أو اليمنية أو السورية أو الليبية أو السودانية أو العراقية أو الخ، فما نشاهده في دول الربيع العربي ليس سوى واحدة من تجليات واقع عربي بائس ومتخلف ومستبد لا يبدو أن الإطاحة بحكامه سيكون منتهى ثورة الشباب ؛ بل هذه الثورات ستظل لسنوات وربما لعقود قادمة، فلن تتوقف ثورات الشباب حتى تعثر على ذاتها وأفكارها وقياداتها التي تتساوق مع تفكيرها وطموحها وكفاحها وحلمها الكبير في وطن حر وقوي ومزدهر.
الحقيقة أن ثورات الشباب لا يمكن اختزالها بإسقاط حكم استبدادي عائلي عسكري فاسد وتنصيب حكم رجعي ثيوقراطي كهنوتي شمولي طائفي عصبوي لا يختلف في ممارسته وتفكيره عن الأنظمة المستبدة السالفة ؛ بل قد يكون أسوأ وأقبح منها.
فالثورات قليل ما تنجح في بلورة أنظمة شرعية مستمدة مشروعيتها من انتخابات حرة ونزيهة، كذلك هو حال كثير من الديمقراطيات الناشئة أثر حروب أو ثورات أو انقلابات أو اتفاقات، فغالب ما وقعت هذه الديمقراطية في مثالب حاكم مستبد وديكتاتوري تلبس لحظة صناديق انتخاب ، ولنا في أدولف هتلر وموسوليني وحتى لورانس بغاغبو حاكم ساحل العاج لخير دليل وبرهان على أن الصناديق ليست كافية "لدمقرطة" العقلية المستبدة.
خلاصة الكلام هي أن ما أفرزته ثورات الشباب كان مخيباً ومحبطاً، وعندما نصف ذلك بالمخيب والمحبط ؛ فلا يعني استهدافنا لجماعة الإخوان وحزبهم العدالة والحرية في مصر أو للنهضة وحكومتها في تونس أو للإصلاح وشراكته في حكومة الوفاق في اليمن، إننا هنا كمن يقتفي أثر مشكلة قائمة ناتجة عن هوة شاسعة ما بين أجيال شابة ثائرة حرة متحفزة لبلوغ المستحيل وبين جيل عتيق هرم صنعه الاستبداد الطويل وصاغه إرث مثقل بالخوف والفزع والجمود والشك من ركوب قطار العصرنة والحداثة والتغيير.
الإحباط السائد يمكن توصيفه بأنه نتاج تصادم بين فكرتين وطريقتين وأسلوبين لإدارة الدولة، الحصيلة بالطبع إننا إزاء رؤساء وحكومات وربما برلمانات جديدة - بمعيار كونها تمثل ربيع الشباب – لكننا وإذا ما نظرنا في فكرة وطريقة وأسلوب هذه القوى الصاعدة ديمقراطياً وتوافقياً وعلى كاهل ثورات الشباب وتضحيتهم ؛ فإنها تمثل حالة ارتداد رجعية متخلفة تجعلها في مواجهة القوى الشبابية الحداثية، فالشباب يأمل من الأنظمة الثورية المتشكلة لتوها ؛ لأن تقود قاطرة الدولة الديمقراطية إلى غايتها المرجوة.
أتصور الإحباط المستبد الآن على هذا النحو : شباب متوثب ثائر حالم متطلع إلى التغيير الجذري الذي يُمكنَّه من الانتقال بوطنه وشعبه إلى المكانة اللائقة والمحترمة، يقابل هذه الطاقة والحيوية توجد ثمة مثبطات وحواجز كامنة في تصرفات وأساليب عقيمة تمارسها السلطات الجديدة، تصرفات وأساليب وعقلية لم تكن بحسبان الكثير من الشباب الثائرين، لكنها تبقى واقعاً موضوعياً وعلى الشباب ألا يحبط أو يقنط أو يستسلم لهذه الوضعية الشديدة القتامة والحيرة والقلق.
محمد علي محسن
شباب محبط وكهلة خائفون !! 2639