ساعة واحدة ، ومرة واحدة، ولقاء واحد ، وجماعة واحدة، ومع كل ذلك احسست وكأنني اقطع المسافات الشاسعة في لحظة زمن ، كما وشعرت فيها انني إزاء كائنات بشرية جائلة حالمة طامحة مستشرفة الافاق البعيدة دونما يأس أو إحباط أو كلفة أو أنانية أو خوف من اقتحام الاماكن الممنوعة والمحضورة .
لا أحدثكم هنا عن أبطال الراحل الأديب الطيب صالح صاحب رواية " موسم الهجرة إلى الشمال " بل عن عشرة شباب أو يزيد تشرفت بلقائهم عصر أمس الثلاثاء ، فبرغم أن مرورهم كان عابراً وطارئاً ومباغتاً – أيضاً – لشخصي الأسير عزلته وفلسفته وتجلياته ، وللمكان المنهك الحزين الضائق بتغريدة تفاؤل وأمل بحلول الربيع، والمشنف أذنيه وحواسه لنعيق غربان الخريف .
هم قلة قليلة من الشباب الثائر الحالم الرافض للاستكانة والخنوع ،أياً كانت توجهاتهم ومشاربهم السياسية والحزبية، وأياً كانت الجهة المنظمة المتبنية لمثل هؤلاء الشباب الرائع المتحرر كثيراً من أغلال وأمراض نخبة الكهلة, فالمهم لواحد مثلي هو مضمون ومحتوى رسالتها الوطنية الإنسانية، ورقي وتحضر وسيلتها ومنطقها ، ونُبل وغاية مقصدها وغايتها .
تحدثت إليهم باقتضاب وشفافية عما أراه حلاً عادلاً لليمن واليمنيين ، تكلموا بالمقابل عما يجيش في خاطرهم من أفكار جريئة كاسرة لجمود المعتاد والمألوف ، وهم يحدثوني عن هول الخراب والدمار الذي حل بأبين وأهلها وشاهدوه بأم عينهم، أو حين عبروا عن جوهر فكرتهم بتجرد ووضوح وصدق ؛ أيقنت وقتها بان مشكلة هذه البلاد وناسها يمكن حلها وعلاجها ولكن وفق تفكير شبابها الثائر المتطلع لحياة حرة وكريمة وعادلة .
نعم, فلكم سرني ما سمعته من افكار قد يعدها البعض مثالية وراديكالية لا مكان لها في واقع وطني وإقليمي يرفل بتعقيدات سياسية وتاريخية ومجتمعية جمة, لكن الثورات بطبيعتها فكرة مثالية مستهلها ذهن الانسان، فما من ثورة في التاريخ إلا ووقودها الشباب ،ألم يقل غوته جملته الشهيرة: (يتوقَّف مصير كل أُمةٍ على شبابها) ؟..
فشباب بلا أحلام، ربيع بلا زهور ، فلا يهرم الانسان إلَّا عندما يحُلُّ أسفه محلَّ أحلامه ، وهذا التعبير البديع صاحبه نابليون بونابرت ، أو كما هو قول الشاعر معروف الرصافي : وهُدى التَّجارب في الشُّيوخ وإنما .. أملُ البلاد يكونُ في شبابها .
أصدقكم أنني وجدت في الشباب ما لم أعثر عليه في كهلة الزمن الماضوي ،قلت ربما تحت تأثير ما سمعته من أفكار جريئة صادقة : لن يصلح حال البلاد توحد مختل ومشوه يقوم على القوة والهيمنة ويستحكم فيه العتاة الناهبين الظالمون .
التجزئة لن تكون حلاً عادلاً وممكناً، ففي الحالتين هذه البلاد يستلزمها صياغة جديدة مبتكرة خارقة للعادة ، كيف صياغة جديدة ؟ الاجابة : بتوزيع القوة والثروة والسلطة من المركز التقليدي المهيمن والمحتكر زمناً طويلاً، أنها معضلة مزمنة عانى منها اليمنيين جميعا شمالاً وجنوباً وبان بنسبة متفاوتة .
وعندما أقول بان الدولة الاتحادية المستشرقة لآفاق المستقبل وتحدياته ومشكلاته؛ فذاك رأي نابع من قراءة ومعرفة لتاريخ موغل في التمزق والتناحر والهيمنة والإقصاء والتهميش، فكما انه يستحيل صيرورة التوحد دون دولة عادلة يتشارك فيها الجميع .
كذلك هو فك الارتباط الذي أعده ضرباً من الجموح غير مدرك للنتائج الكارثية المتوقعة من استعادة الدولة الجنوبية إلى سابق حدودها ، إنها مشكلات قد تبدو اليوم مجرد أعراض مصاحبة لا خطر فيها على ولادة الجنوب ثانية ، لكننا وإذا ما نظرنا بعين فاحصة متجردة من أنانيتها وعصبيتها سنجدها مشكلات خطرة وقاتلة يستحيل البناء والتأسيس عليها مجتمعاً جنوبياً حراً وموحداً ومستقراً .
خلاصة الكلام ؛ هم جماعة ثوار ، وأرادوا بفعلهم بث الروح في جسد ثورة مضنى منهك ، قال لي احدهم مازحاً: إنها الهجرة الثورية الأولى الى الجنوب ، لا أدعي نبوءة ، كما واحسب رفاقي ليسوا إلا رُسل محبة وألفة وسلام ووئام ، فمثلماً للجنوب قضية وثورة ؛ للشمال قضية وثورة ! ففي كل الأحوال اليمنيون اخوة وينبغي ان يكونوا كذلك ، فسواء بقت الدولة واحدة او تجزأت، فالمهم ليس توحد التراب؛ بل وحدة الإنسان هوية ونفسية وذهنية ومنفعة .
أفكار مثالية حماسية ، لكنها برأيي جديرة بالاحترام، لا أعلم خلفية هؤلاء الثوار الرائعين ، كما وأجهل مقدار معاناتهم لإيصال مثل هذه الافكار الثورية، فبكل تأكيد هي بداية في مضمار طويل شائك ومعقد، ما من نتيجة طيبة تأتي من الاسترخاء والخمول ، إنها بداية مشجعة ومحفزة لنتائج باهرة في قابل الأيام، دعكم من هواجس ومخاوف الجغرافيا اللعينة المنهكة ! لا شيء أفضل من احترام كرامة الانسان .
شكراً لكم أيها الشباب الثائر ، أنكم بحق التعبير الصادق والجميل لثورة فبراير ، ادرك جيداً أنه ما من ثورة تنال كامل اهدافها في مدة وجيزة ، فكيف في واقع كهذه وتفتك فيه امراض عدة مميتة ومزمنة ؟ يكفي انكم اقتربتم قليلا من انين الجنوب ووجعه ..
أظنكم الآن أعلم من ساسة البلاد وعرابيها، فمن الآن وتالياً لا أعتقد أنكم ستدهشون حين يسألكم شاب جنوبي محبط وغاضب قائلاً: أمراء وسلاطين ومشايخ الجنوب سلموا أمرهم طواعية وكرهاً للدولة في الجنوب ، فمتى يرضخ وينصاع مشايخ الشمال للدولة وسلطتها وقوانينها ونظامها ؟..
محمد علي محسن
الشباب والهجرة جنوباً!! 1971