قال لي مازحاً أو ربما متهكماً: سيكون مصير النقاط العشرين مثل سالفها النقاط الثمانية عشرة التي قدمها وقتها علي سالم البيض.. قلت مندهشاً ومتعجباً من كلامه : آه يا صاحبي لقد نسيت تماماً نقاطك الثمانية عشرة، فكل ما أذكره الآن هو أننا أقمنا القيامة لتلكم النقاط التي سرعان ما تبخر مدادها وبمجرد اتفاق الفرقاء حينها على لجنة حوار وطني رأسها المهندس/ حيدر العطاسـ رئيس الحكومة..
أعذرني يا صديقي إذا ما قلت لك أنني كسائر قومي، فجميعنا أصابنا التبلد والنسيان ولدرجة أننا لا نستطيع تذكر بنود مبادرة الخليج ذاتها أو مضمون قراري مجلس الأمن 2014، 2051، أتدرون ما آفة الشعوب المهلكة والمدمرة ؟ إنها في انقراض الرجال الشرفاء المخلصين النزهاء النبلاء مع وطنهم ومجتمعهم، فانعدام القدوة الحسنة من أي مجتمع بلا شك كارثة ماحقة ..
الآفة الثانية هي النسيان حين يصيب العقل، فعطب الذاكرة الجمعية عن حفظ واستذكار التواريخ والمواقف والأفعال الوطنية المشرفة يمثل علة قاتلة للإنسان الفرد وللمجتمع عموماً.. أما ثالثة الأثافي فتصيب القرار السياسي، فمتى هيمن الهوى والمزاج على ذهن صاحب القرار وتصرفاته ؛ فبكل تأكيد النتيجة كارثية.
أتذكر الآن وبحسرة كيف أن لجنة الحوار الوطني شغلتنا وقتاً في خلافاتها وانسحاباتها وتصريحاتها، فمنذ 1 جمادي الآخر إلى 7 شعبان 1414هـ الموافق 22-11-1993م إلى 18 -1-1994م والبلاد والعباد لا كلام لهم سوى لجنة الحوار المتشكلة من كافة القوى السياسية، في نهاية المطاف خرجت لليمنيين برؤية أسمتها " وثيقة العهد والاتفاق " وذلك لاحتواء الأزمة السياسية التي عاشها الوطن حينها، وكان هدفها الدفع بمسيرة الوحدة اليمنية التي تحققت في 22 مايو 1990م في طريق المسيرة من أجل تعزيز الوحدة والديمقراطية واستقرار وترسيخ بناء دولة النظام والقانون والمؤسسات..
ساد الاعتقاد لبرهة بأن الأزمة السياسية انتهت بمجرد إمضاء الفرقاء لهذه الوثيقة التي لم نعتبرها وثيقة تاريخية فحسب ؛ وإنما أضفنا عليها مسوحاً من المباركة السماوية، كون توقيعها في العاصمة الأردنية عمان يوم 20فبراير 1994م وبرعاية الملك حسين بن طلال رحمه الله - تصادف مع خواتم شهر رمضان المبارك ..
لأسابيع تالية لتوقيع الوثيقة في عمَّان يوم 21فبراير 94م والمسئول المشرف على صحيفة " الراية " الناطقة باسم جيش دولة الجنوب حتى إعلان الوحدة والحرب ؛ يلح علينا كل صباح أغر تلاوة نصوص الوثيقة فصلاً فصلاً وبنداً بنداً؛ وكأنما هي مزامير أو قولوا تراتيل كتاب مقدس ينبغي حفظها وتضوعها في الصلوات ..
الباب الأول ـ الفصل الأول المادة الأولى: المتهمون في قضايا الإخلال بالأمن :" اتخاذ الإجراءات الحازمة للقبض على المتهمين الفارين في حوادث الاغتيالات ومحاولات الاغتيالات والتقطع وغيرها من الحوادث المخلة بالأمن، والبدء الفوري في محاكمة المقبوض عليهم في الأعمال التخريبية محاكمة شرعية وعلنية تضمن فيها إجراءات العدالة للمتهمين وتنفيذ العقوبات دون تباطؤ".
اليوم يشبه الأمس كثيراً، فبرغم تأكيد الرئيس/ عبد ربه بأن مبادرة الخليج لم ولن تكون وثيقة العهد والاتفاق التي نُكث فيها قبل أن يجف مداد الموقعين عليها؛ إلا أن الناظر في ممارسة الرئيس السابق، وكذا في فعل القوى الفاسدة والنافذة، سيخلص لنتيجة مفادها المقاومة الشرسة لكل مضامين الحوار الوطني، أو هيكلة الجيش، أو صياغة الدستور الجديد، أو غيرها من المسائل الوطنية المهمة المؤسسة لدولة يمنية ديمقراطية مستقرة .
ما الذي يجعلنا الآن واثقين ومطمئنين بأن الحوار سيكون مختلفاً عن سالفه؟.. نعم، لا وجه لمقارنة الحاضر بالماضي ؛ فوثيقة الأمس لم تحظ بدعم الإقليم والعالم مثلما هو داعم اليوم لمبادرة الخليج وآليتها المزمنة، لكننا هنا نتحدث عن ممانعة واحدة وإن تبدل شكلها ومكانها، أو قل رجالها وباعثها وحتى فرصة بلوغ أهدافها.. حقيقة لست متفائلاً بالحوار ؛ ما بقيت أسباب إخفاقه كامنة في أحشائه وذهنه وسلوك مكوناته، فالحاكم الذي نكث بعهد قطعه ومهره في عمان ليس بغريب عليه التنصل من ميثاق وقعه في الرياض ..
لا أجد ثمة فارقاً ما بين نكثه وغدره للبيض ورفاقه في الأمس وبين نكثه وخداعه لعبد ربه وحكومته اليوم، فبعيد انتصاره العسكري عام 94م لم يجد حرجاً من وصف وثيقة العهد بـ" وثيقة الخيانة والعار " كيف ولماذا وقع على وثيقة القوى السياسية وكيف قبل أن يكون خائناً وعاراً؟، لا اعلم.. نعم مهر إمضائه على مبادرة يدرك أنها ستخلع عنه جلباب الحاكم المطلق، ومع ذلك يصعب إقناعه لأن يكون رئيساً سابقاً، إذ أن تصرفاته لا تشيء الآن وبعد أن غادر الرئاسة بأثر ثورة نالت إعجاب وتوقير دول المعمورة، وبعد أن أجبرته – أيضاً – الضرورة ؛ لأن يمضي مكرها على وثيقة إقالته؛ مازال يجهد ذاته لإفشال التسوية السياسية.. نعم لم يعد رئيساً للبلاد؛ كي يمكنه نسف جسر العبور إلى المستقبل، لكنه بالمقابل مازال رئيساً للرئيس، فثورة التغيير ليست إلا مؤامرة على حكمه، وبكل تأكيد لن يتوقف عن ابتكار المشكلات والعراقيل، ما بقي في صدره نبض، وفي جيبه قرش، وفي مجتمعه من لا يكترث لعهد أو ميثاق أو نقاط أو يمين أو اتفاق وووووووووووووووالخ من الالتزامات والمواثيق الأخلاقية والأدبية التي انتهكها صالح زمناً طويلاً ولن يجد أية غضاضة في تكرارها اليوم وغداً .
ختاماً؛ شكراً لك صديقي الرائع الفائض جمالا ووجدا " مروان الطبقي " - أو كما يحلو لك مناداتك بـ" أبي نزار " – سررت جداً بذاكرتك الوقادة، وأفزعني حدسك النافذ إلى أعماق المشكلة المزمنة، أصدقك أنني لم أعد أتذكر نقطة واحدة من تلكم النقاط الثمانية عشرة، فذاكرتي تماثل ذاكرة معظم اليمنيين، أشاطرك خوفك، فالنقاط "العشرين" الممهدة للحوار الوطني قد يكون مآلها النكث والنسيان كسالفها، فيصير تجاوزها لغماً كبيراً في طريق التسوية، وإما أنها ستكون محل تفهم وإدراك الرئاسة الانتقالية ؛ فيكون تنفيذها باعثاً ايجابياً ومطمئناً وداحضاً – أيضاً – لفكرة المقاربة ما بين مرحلتين وحوارين ورئيسين .
محمد علي محسن
عذراً يا صديقي وتباً للنسيان !! 2332