حرية وكرامة ومواطنة متساوية، فهل هذه أشياء كثيرة على المواطن العربي الذي رزح قروناً ومازال لوطأة الاستبداد والاستعباد والطغيان؟.. إن ثورات ما سمي بالربيع العربي ؛ تخلفت عقوداً عن ثورات أوروبا وأسيا وأمريكا اللاتينية، لقد استبدت الأنظمة البوليسية الفاسدة بشعوبها لحد الاستعباد الفظ المحتقر للكرامة الإنسانية، كما ووصل بها الأمر إلى تقديس وتأليه الحكام الطغاة.
كم تستفزني لفظة العروبة إذا ما كان قائلها قائداً مجنوناً متغطرساً غريب الأطوار كالقذافي ؟ كم أتوجع حرقة وندامة على القومية والقوميين من عبث البعث في سوريا؟ ومن جرائم الحكم العائلي الطائفي المقترفة بحق الشعب السوري المزهق منه حتى اللحظة زهاء الستين أو السبعين ألف إنسان ناهيك عن الجرحى والمشردين والمعتقلين والنازحين؟ ومن صلف وبرودة دم المتحدثين عن نظام لا يتورع من قتل شعبه وبكل الأسلحة المحرمة.
وأحد من هؤلاء الذائدين عن حمى القبيلة والطائفة يحدثك قائلاً: إنها مؤامرة أمريكية صهيونية غربية رجعية لا ثورات عربية! سياسي عُرف لحقبة نصف قرن بتشدده نظرياً لتعاليم ميشيل عفلق وصلاح البيطار وواقعياً بتنظيمه القومي العروبي الذي لا يتعدى في شكله ومضمونه جغرافية القبيلة والمنطقة حذر قائلاً: ثورة 14اكتوبر 63م قدمت الغالي والنفيس كي تخرج المستعمر البريطاني من بلادنا؛ وها هو الاستعمار يعود إلى وطننا ومن خلال هذه الثورات العارمة التي اجتاحت الدول العربية بدعم ومساعدة أمريكا والغرب.
فالثورات من وجهة نظر عديد من ديناصورات العهد الاستبدادي المنقرض ؛ ليست إلا مؤامرة كبيرة خطط لها في البيت الأبيض وإدارة عملياتها في إسرائيل، ألم يقل ذلك الرئيس صالح قبل خلعه بزمن قصير، وفي خطاب متلفز - تناقلته وسائل الإعلام المحلية والعالمية - سرعان ما نقضه في مساء ذات اليوم ومن خلال برقية اعتذار وأسف بعث بها للبيت الأبيض الأمريكي الذي طلب تفسيراً لخطبة فارس العرب العصماء أمام طلاب وأساتذة جامعة صنعاء ؛ فكان رد الأخير انه لم يقصد الإساءة للولايات المتحدة مرجعاً إشاعة النبأ لسوء الترجمة ولتهويل الإعلام.
نعم؛ قد تكون هذه الثورات عاملاً رئيساً في وصول الإخوان للحكم في مصر وتونس وليبيا واليمن،كما وأن هذه الوضعية المهترئة والبائسة التي تعيشها بلدان الربيع العربي قد يكون سببها المباشر – أيضاً – هذه الثورات وما أفرزته من نتائج سلبية على صعيد الدولة المستقرة نسبياً وعلى اقتصادها وبنيويتها وهيكليتها ومجتمعها وعلاقاتها وسياساتها ووالخ.
لكننا نتحدث عن ثورات شعبية أداتها العملية التظاهر في الشارع، والصورة والكلمة في القنوات والصحف والمواقع الافتراضية ؛ ولأن وسائلها مختلفة كلياً عن ثورات الكفاح المسلح أو انقلابات الخمسينات والستينات من القرن العشرين - بما في ذلك ثورات ليبيا وسوريا التي تحتم على ثوارها حمل السلاح - ؛ فمن الطبيعي للغاية بتعثر هذه الثورات وبإخفاقها وفشلها، فالواقع أن هذه الثورات ستواجه إرثاً مثقلاً بالمشكلات السياسية والاقتصادية والثقافية والمجتمعية، وبكل تأكيد هذه التحديات كبيرة ويستلزمها وقتاً زمنياً وجهداً خارقاً ريثما تتحقق فيه الدولة الديمقراطية العصرية المستقرة.
وعودة للحديث عن دعم ومؤازرة أمريكا وبريطانيا وفرنسا وغيرها من دول العالم، فما من ثورة من ثورات الدنيا إلا وكان الخارج عامل انتصارها أو هزيمتها، لنكتفي بالإشارة هنا إلى ثورات القرن الفائت والتي يغفل الكثير اليوم حقيقة كونها أخرجت بريطانيا وفرنسا وايطاليا وهولندا وبلجيكا ؛ بل حتى الطغاة الوطنيين، فكل ما أحرزته الانقلابات والثورات ما كان سيتحقق لولا دعم ومؤازرة هذا الخارج.
إذا كانت ثورة آية الله الخميني سنة 79م قد أطاحت بالشاه محمد رضا بهلوي وبدعم ومباركة أمريكية فرنسية، وهذه ليست معلومة جديدة، فكثير ما قرأت أو تابعت ذكريات مقربين من الإمام وثورته ؛ بل أن السيد هاني فحص في برنامج " رحلة في الذاكرة " قناة روسيا اليوم أكد في حلقة الأسبوع الماضي حقيقة هذا الدعم الأمريكي الفرنسي لثورة إيران.
فبرغم ما حظيت به من دعم سياسي ودبلوماسي وإعلامي وحتى العسكري ؛ كانت هذه الثورة مخيبة للبلدين الداعمين إذ لم يضعا بالاعتبار أن الخميني المرشد الواعظ الديني سيكون هو رأس الدولة الإسلامية الجديدة، الشيعي اللبناني لم يكتف بذكر أوجه الدعم الغربي لثورة إيران إذ قال: ما من ثورة وقعت إلا وأمريكا ضليعة بها من قريباً أو بعيد).
إن ما نشاهده الآن من واقع محبط يعد نتيجة لعقود وقرون من الاستبداد والاستئثار السلالي والقبلي والطائفي والعسكري والجهوي والفئوي، ليت المشكلة وليدة حكم الإخوان الضيق والمحدود والفاقد للكفاءة والقدرات أو نتاج معارضة محنطة منكفئة على شعاراتها وقياداتها العتيقة! لو أنها اقتصرت على قوتين ثوريتين ؛ لهان أمرها وقلنا التجربة الديمقراطية كفيلة بتنقية الغث والشائب وكل ما يطفح به مناخ الحرية ؛ لكننا أمام ثورات يستلزمها عقوداً كي تجسد قيمها ومبادئها الإنسانية والديمقراطية والحضارية.
في الختام يجب توجيه رسالة ما لشباب الثورات العربية: لم تقم ثورة 26سبتمبر 62م من دون دعم مصر وأحرار العالم قاطبة، كما أن إخفاقها في بلورة دولة وطنية مستقرة يعد نتاجاً لتدخل الخارج ودعمه الدؤوب لقبائل الداخل، ثورة الجنوب ما كانت ستجبر انكلترا العظمى على الرحيل لولا دعم مصر وثورتها مادياً وعسكرياً ومعنوياً ودولياً.
ولولا نصرة وتأييد دول البسيطة قاطبة ومنها الامبريالية الغربية والشرقية التقدمية، وهكذا هو حال ثورة مليون ونصف شهيد في الجزائر وثورة السودان وليبيا وفلسطين، وهكذا أعلنت دول الخليج استقلالها سلمياً، وقبلها هذه جميعاً ثورات العراق وسوريا، والشريف حسين والإمام يحيى وغيرها من الثورات العربية المناهضة للوجود العثماني والانكليزي والفرنسي.
لا أقول لكم بأن أنبياء الله ورسله كان ملاذهم الخارج، فحين ضاق بهم الداخل ولدرجة البطش والقتل والتنكيل بهم وبرسالتهم ودعوتهم ؛ خرجوا ولسان حالهم مردداً: لا كرامة لنبي في قومه. وإذا كان هذا هو حال رسل السماء ؛ فكيف بمن لا معجزة لديه غير فعله الثوري البشري؟.
لا عليكم أيها الشباب، دعوهم يخرجون أمراضهم المكبوتة، إنهم يعانون من معضلة مزمنة، سيقولون لكم ثورات أمريكية وصهيونية وأطلنطية، يكفي أن تهزؤوا منهم قائلين: ما من ديكتاتور وطاغية إلا وقبلته واشنطن ولندن وباريس وموسكو! ما من ثورة وطنية تحررية في عصرنا الراهن إلا ودوافعها مشكلات داخلية كما لا تنجح بمعزل عن أوروبا وأمريكا!.
محمد علي محسن
ما من ثورة إلا وخلفها طغيان!! 2070