قص علي صديقي حكاية جاره عبده الملقب بـ" القط ذو السبع الأنفس" فذات لحظة سليمانية قرر الرجل الرحيل من قريته الرابضة في بطن جبل سامق؛ ككائن وديع استأنس وجوده بين ظهراني وحش ضخم مخيف وفتاك.. غادر خلسة دون معرفة سعيدة " زوجته "، ابتاع تذكرة طيران وصعد جالساً بمحاذاة جناح الطائرة، أخذ يتطلع في وجوه الركاب المسافرين عله يعثر على أنيس يبدد كربه ويزيل هلعه وقلقه.. أقلعت الطائرة ماخرة عباب السماء، نظر شزراً في وجوه وجمة مُسفرة تغط بنوم عميق، حدق وقتاً في فناء كئيب قفر؛ إلا من عمود يسبح في لجة سحابة بيضاء ، حمله طيف عابر لتذكر زوجته وأولاده الذين تركهم دونما وداع، فزعه القادم الذي يجهله، تساءل: ماذا لو انه لم يجد قريبه بانتظاره في المطار؟ ماذا لو أن سفرته هذه ليست إلا وهماً عاشه ودفع لأجله ماله وعمره؟.
لم يحتمل سويعات الرحلة؛ فغط في نوم ثقيل أيقظ كل من في جوف مقصورة المؤخرة، أخذ يصدر شخيراً مزعجاً ومعكراً لسكينة اللحظات، مطبات الهواء أيقظت جميع ركاب الطائرة عدا عبده المستسلم لنوم كثيف ، هوت الطائرة بركابها وطاقمها إلى قعر المحيط، تخاطفت وكالات الأنباء والقنوات والصحف خبر تحطم الطائرة ووفاة كافة ركاب الرحلة..
كل هذا وقع وعبده " القط ذو السبع أنفس " في سبات وشخير إلى أن أيقظته أصوات أناس غرباء أخذوا يرقصون ويهللون ويلهجون حول جثته المتوسدة ثرى المكان ، خيل له الأمر وكأنه فرحة بنجاته العجيبة من هول كارثة ابتلعت جميع زملائه مبقية إياه وحيداً كناجي قوم فرعون؛ لكن أحداً منهم لم يسأل أو يكترث أو يعلم بما حل به وركاب الطائرة..
استفاق عبده من غيبوبته، وحين فاق وجد ذاته ملكاً متوجاً يتقرب له هؤلاء الغرباء، فقبل أن يأتي به قدره إلى تلكم الصخرة المنتصبة في التلة المحاذية للمحيط، كان هؤلاء القوم قد انتظروا زمناً طويلاً مبعث السلطان الذي سيتوقف في عهده نزيف دمهم المعفر بغزارة، كما وسيعم في ظله العدل والخير أرجاء البلاد..
اعتقاد مرده قصص وأساطير ومرويات قديمة رسخت في أذهان أجيال وطنت هذه البقعة وما فتأت منتظرة اللحظة المباركة التي سيظهر فيها ملكها العادل نائماً قرب الصخرة, ملتحفاً ظل شجرة ضخمة عتيقة عمرها يربو عن ألف سنة، طائفة من خلق الله يشبهون السبعية أو الواقفية التي لم تكل جماعتها أو تفتر من وقفتها أمام سرداب المهدي المنتظر..
أدرك الآن فقط انه الملك المنتظر الذي في كنفه سيعم الخير والسلام، وينعم الجميع بالعدل والمساواة والرفاهية، لم ينبت بشفه إزاء حقيقة وجوده، اعتقاد راسخ عمره قرون يستحيل محوه بيقين لحظات، قال في سريرته: مُلك بعد ممات خير من هلاك بعيد نجاة!..
شاع نبأ الملك المبعوث، بقى الرجل في مكانه مندهشاً فاغراً فاه مما يشاهده حواليه من مظاهر احتفاء وبهجة وتهليل وتصفيق وترحاب وود لم يحظ به إنسان في هذا الزمن المتوج بالمآسي والويلات والخذلان والبغض والأنانية والحروب والظلم ووالخ.. كل من في الأمصار تدافعوا إلى البقعة المقدسة علَّهم يظفرون ببركة رؤية ملكهم الذي طال انتظاره، أو سينالهم حظ من بركاته وتقواه، وضِع على ناصية رأسه إكليل من الماس المطرز بالياقوت والعقيق وبلورات فضية متلألئة، ارتدى لباس الملوك المحاك من أجود وافخر أنواع الحرير، أمسك بصولجان من الذهب الخالص، مشى على سجاد فارسي يشع بكل الألوان الزاهية وينتهي طرفه عند بلاط ملكي وثير ظل يحتفظ برونقه ومهابته طوال قرون من الانتظار..
كان حلمه بسيطاً؛ وها هو ينصب ملكاً!, كانت رحلته كدرة وسئومة وكارثية؛ وها هو ينفض حزنه وكآبته ومأساته بصخب وفرحة ومتعة لا نظير لها حتى في الأحلام، حياة مترفة بكل متاع الدنيا أذهبت عن كاهله قترة الرجل القروي، النساء الغواني يحفن به، يرقصن له، ينتظرن سبابة يده ، الحشم والخدم والمال والسلطان تحت إمرته، ورهن إشارته، من قروي أشعث عليه غبرة قوم ثمود إلى ملك متوج يفيض جمالاً وألقاً وذهباً..
جلس في كرسيه الوثير، نادى على حجاب قصره المنيف قائلاً: أنا ربكم فأمركم بطاعة سلطاني وبعبادة مقامي.. أجلبوا ما لذ وطاب من الأكل والشراب، أقبلوا بالراقصات الجميلات، وبأساطين الشعر والغناء والعزف والفكاهة والنفاق، وزعوا المال على الجُند والعوام ، معدتي خاوية نهمة لطعام بلاد، نفسي عليلة جامحة للرقص واللهو والمتعة، سأنسي الليلة عبده القروي البائس الهزيل الفار من أهله!, يكفي أنني حي، وسلطان يلهو ويعبث فيما رفاق رحلتي المشئومة أشلاء ممزقة في بطون حيتان المحيط..
نعم؛ أريد نسيانك يا سعيدة المدبرة، قالها وزاد كررها وبصوت مرتفع: صرت ملكاً يا سعيدة الشقية الكئيبة، يا وجه النكد والشؤم واللسان القاذع.. وبينما هو في غمرة هياجه ونشوته يتسلل إلى أذنه صوت سعيدة من الحجرة المحاذية لبلاطة مجيبة: ماذا بك وقط بسبعة أرواح؟.. يستفيق هنا عبده فزعاً من صوت زوجته، يكتشف أنه في بيته، فلم يغادر من متكأه مطلقاً!!.
محمد علي محسن
عبده ذو سبعة أرواح!! 2066