ما حدث يوم الخميس 21فبراير يمكن قراءته على نحو مغاير للرواية الرسمية التوافقية الإصلاحية أو الجنوبية الحراكية، دعكم من العاطفة الجياشة وللنظر لما وقع بموضوعية متجردة من العصبية والمغالاة والتضليل، فما وقع يمكن تفسيره على أنه نزاع تأخر كثيراً وتأجل وقتاً، نزاع بين أطراف ثلاثة هدفها الرئيس بسط نفوذها على مساحة عدن وأخذ زمام أهلها وقرارها بما يعني للأطراف المتصارعة من قوة ورمزية وأهمية سياسية وجغرافية سيكون لها الأثر البالغ على كافة جغرافية الجنوب وعلى مستقبل أناسه ووضعهم السياسي في خارطة التسوية القابلة التي تريدها القوى الجنوبية المختلفة وفقاً ووضعها ومكاسبها وأدواتها وشروطها.
الصورة المشاهدة الآن تبدو وكأنها كاملة في ملمحها وإطارها، فيما الحقيقة أنها ليست كذلك؛ إذ تخفي في أعماقها جوهر مشكلة مزمنة صنعتها عقود من الهيمنة والإقصاء والتسلط فلم يكن التوحد ومن ثم كارثة حرب صيف 94م سوى نتيجة وخلاصة مأساوية ومدمرة لما بقي من الدولة الجنوبية وشراكتها ووجوده السياسي والمعنوي والمجتمعي.
لا أعتقد أن المسألة تكمن بإصرار الإصلاح على إقامة الفعالية السنوية في عدن كي يثبت نجاح الثورة وان كلفه الأمر خسران الكثير أو مردها عنت وممانعة قوى الحراك لإقامة هكذا مهرجان ولو استلزمها التضحية بالمهجة والدم كي تفشله، فمثل هذا التوصيف أعده سطحياً ويفتقر للدقة والموضوعية الكامنة في أعماق القوى الجنوبية المحتفية بانتخاب الرئيس التوافقي أو المحتفية بفشل انتخابه.
الواقع أن إزاء ثالوث قديم جديد يحاول كل ضلع فيه استعادة الجنوب ولتكن البداية بإخضاع عدن بما تمثله من أهمية وثقل ورمزية سياسية ومعنوية، فالرئيس عبد ربه كان داعماً بقوة لهذه العودة إلى مساحة الجنوب، الإصلاح أيضاً أرادها تظاهرة تعيده إلى سابق ألقه وحضوره، الحراك ما من شك برغبته الجامحة لإفشال التظاهرة التي يعد نجاحها عودة للجنوب إلى خصومه التقليدين المنتصرين في حرب 94م وهزيمة له ولفكرته المنافحة لاستعادة الجنوب إلى ما قبل التوحد.
شخصياً لطالما انتظرت عودة الإصلاح أو سواه من الأحزاب السياسية التي للأسف تركت ساحة الجنوب شاغراً في وقت شديد الحرج والفاقة لمن يملأ فراغه ؛ فكانت المحصلة كارثية وعبثية إذ حلت المؤخرة بموضع القيادة وتراجعت النخبة لرغبة المزاج وزحفت الأطراف المتخلفة إلى الوسط المتمدن والمتحضر.
ادعم وأؤيد عودة الأحزاب السياسية إلى عدن والى كامل محافظات الجنوب كما وان موقفي لا يتزحزح أو يتبدل تجاه حق كافة القوى الجنوبية في أن تعبر بحرية وتحضر وسلام واطمئنان وفي كل مساحة الجنوب، فما من قوة أو جماعة أو جهة يمكنها مصادرة وسلب هذا الحق الإنساني الأصيل الذي كفلته جميع شرائع السماء والبشر، ففي النهاية ارفض وبشدة كل أسلوب وطريقة وفكر لا يؤمن بمبدأ الاختلاف البناء والخلاق المنحاز لروح التباري والتنافس والكفاءة واحترام الرأي الأخر أياً كان صاحبه وهدفه.
لكنني أتحدث هنا عن عودة مخيفة مرعبة لا تمت بصلة للعودة إلى ساحة الجنوب الحاضرة، هذه العودة بكل تأكيد لمستها من خلال إصرار الرئاسة على مخاطبة قوى الحراك بمنطق المنتصر في حرب 94م وإذا ما تجاوزها مرة فبتصنيف هذه القوى الجنوبية إلى طغمة وزمرة ودونما أي اعتبار لحقيقة المشكلة الجنوبية التي تعد يصعب اختزالها بزمرة وطغمة أو شرعية وشرذمة.
كما وأحسست بهذه العودة من تحالف قديم جديد بين الإصلاح والرئاسة هدفه الذهاب بالجنوب إلى الحوار الوطني ودونما اعتبار أو تنازل أو حل لكثير من المشكلات السياسية والاقتصادية والمجتمعية التي خلفها التوحد الارتجالي وزادت الحرب بمضاعفة نتائجها الكارثية لتشمل معظم مكونات المجتمع الجنوبي ودون تمييز ما بين كون هذه الفئة محسوبة على الشرعية أو كونها من جماعة الشرذمة.
المناسبة بقدر ما مثلت عودة للرئاسة والإصلاح بذات القدر أفزعتنا هذه العودة كونها أعادتنا إلى مربع الأزمة السياسية والحوار الوطني والحرب وما تلاها من سنوات مريرة مازالت محفورة في ذاكرة ووجدان وواقع الجنوبيين ودون يسلم من ذلك الرئيس المتوج اليوم أو الإصلاح الذي ذاق من الكأس نفسها التي شربها قبله الحزب الاشتراكي.
وإذا كنا قد تطرقنا إلى هاتين القوتين الصاعدتين العائدتين لمساحة الجنوب بعقلية ماضوية؛ فإننا لا ننسى القوة الثالثة المتمثلة بقوى الحراك المناهضة للتوحد السياسي وما فتأت مقاومة لكل أشكال التطبيع والحوار، فبرغم معاناة هذه القوى من التهميش والإقصاء والقتل والسجن وغيرها من الممارسات الخاطئة؛ إلا أنه لا يبدو أن عودة هذه المكونات الجنوبية سيكون مختلفاً عن عودة القوتين المناوئتين لفكرة استعادة الدولة وتقرير المصير؛ إذ أن غالبية قوى الحراك المسيطرة خلال الآونة الأخيرة على مساحة الجنوب مازالت مسكونة بهاجس العودة إلى ما قبل التوحد والحرب.
فبرغم ما أحدثته ثورات الشباب العربي من متغير سياسي كان له أثره الايجابي والموضوعي على قوى الحراك ذاتها، ناهيك عن تبدل تام لمنظومة من العلاقات والتحالفات ووسائل التعبير والتواصل وحتى الأفكار؛ إلا أن المتأمل في تعامل الحراك مع هذه التحولات الحاصلة لا تشي بثمة تناغم من أي نوع، فكل ما نراه من ناحية الحراك لا يبدو من مضمونه وشكله بان عودته ستكون مختلفة عن الرئاسة والإصلاح.
السياسة في مفهومها البسيط تعني البدائل، لنفكر في الخيارات المتاحة وفي هذه البدائل، ليتخلى الرئيس عن فكرة الولوج للحوار ومن ثم المستقبل بذات المنطق والنهج الماضويين، الإصلاح من جانبه ينبغي تخليه عن فكرة المعالجة للقضية الجنوبية دونما تنازلات جوهرية تتعلق بشكل الدولة المستقبلية وبإعادة الحقوق والاعتبار لطرف سياسي شريك ومهم ويصعب تجاوزه أو إقصائه من الحوار القابل مهما بدا الأمر ممكناً ومغرياً.
قوى الحراك وتحديداً فصيل استعادة الدولة الذي يجب تخليه عن فكرته الماضوية كي لا يجد ذاته في نهاية المطاف وحيداً وبعيداً عن الواقع الجديد وبعيداً عن صياغة المستقبل. خلاصة الكلام الأطراف الثلاثة جميعها غارقة في حساباتها وتكتيكاتها وممارستها القديمة، لا وصفة سحرية لهذه الوضعية غير الاتفاق حول الدولة البديلة المجسدة للتعايش والشراكة، لا حوار بمقدوره الإتيان بمعجزة ودونما مقدمات وشركاء فعليين معنيين بصياغة اليمن الجديد، كما لا نجاح لفكرة الدولة القادمة من دون علاقات جديدة، ومن دون تخلي كافة الفرقاء عن فكرة ابتلاع الجنوب، ودونما توافق حول العودة إلى الجنوب وإلى الحوار وإلى الحاضر.
محمد علي محسن
الجنوب وثالوث استعادة الماضي !! 1938