" ساتيا جراها" تعني المقاومة السلبية؛ لكنها وفق تأصيل مؤسسها المهاتما غاندي باتت تُعرَّف بأنها قوة الحق أو صلابة المحبة، وعلى قوة الحق وصلابة الإيمان بالتعاضد الإنساني العادل والمنزهة من العنف والكراهية والتمييز والاضطهاد؛ كان الهندي النحيل الأسمر قد استهل حياته السياسية والنضالية والكفاحية والمهنية..
غاندي الباحث عن وظيفة مُعلِّم يداري بها خجله الكبير كمحام متدرب تنقصه الجرأة والتجربة، يسوقه القدر إلى جنوب أفريقيا مطلع تسعينات القرن قبل المنصرم، فمن القارة السمراء تحديداً بدأت قصته الإنسانية والمهنية والكفاحية، قصة بدأت فصولها بقضية نزاع ما بين تاجرين مسلمين هنديين حول ملكية عقار أخذ من الاثنين سنوات من التنازع أمام القضاء بمختلف درجاته وتكويناته..
لم يأبه غاندي بكونه محامياً ولا بكونه سيخسر ماله نظير دفاعه عن احد المتخاصمين، لجأ وبطريقة ذكية - قلما توجد في مهنة المحاماة – إلى تغليب البعد الإنساني الصادق والنزيه والخالي من الشك والطمع والحيلة والمكر، ففي أيام وجيزة قدر على التوصل إلى اتفاق ودي ومنصف، عاد بمقتضاه العقار لموكله، فيما حفظ لخصمه كبريائه وتجارته التي كانت عرضة للإفلاس في حال بقي موكله على عناده ورفضه لتقسيط ديون خصمه المستحقة له..
ومن قوة الحق وعزيمة الرجل الفولاذية تجلت شخصيته الساحرة، ومن حركته الشعبية المدنية السلمية العقدية أخذ اسمه ينمو ويكبر، وحركته تتمدد وتتسع بين قرابة 30ألف هندي مُضطَهد في جنوب أفريقيا حينها، وقدر له في بضعة سنوات جعلها قوة فاعلة وحاضرة في مختلف وسائل الإعلام الدولية والمحلية والهندية، ناهيك عن حضورها القوي والمؤثر في ردهات القضاء والبرلمان وفي توقف الإنتاج وزيادة الأعباء الاقتصادية على كاهل النظام العنصري، كما أنه وكلما أمعن في القمع والاعتقال للهنود المحتجين زادت عزلته وساءت صورته وتفاقمت وضعيته.
قصة زعيم بحجم غاندي بكل تأكيد مقامها يطول،فشخصيته الفريدة والنادرة نالت إعجاب واحترام خصومه قبل أصدقائه،فلم يخطئ أمير الشعراء أحمد شوقي حين شبهه بالرسل قائلاً :
شَبِيهُ الرُّسْلِ في الذَّود عَنِ الحَقِّ وفي الزُّهدِ
لَقَد عَلَّمَ بالحَق وبالصَّبرِ وبالقَصدِ
أما أسلوبه الكفاحي لأجل تحرير هنود جنوب أفريقيا من الرق والاضطهاد والتمييز العرقي العنصري الكريه؛ فلقد أجبر حكومات الجنرالات الأوربيين للرضوخ لمطالب الأقلية الهندية، إذ تم إسقاط القوانين العنصرية، وإلغاء التمايز المقيت المتحيز للبيض والمنتهك لحق الهنود في الحياة الحرة الكريمة والمتساوية، كيف لا؟ وطريقته السلمية غير عنيفة انتزعت ما لم يستطع تحقيقه الزعيم نيلسون مانديلا وقومه الغالبية السوداء التي تأخرت قرابة ثمانين سنة تقريباً؛ لحتى تهتدي لجادة التعايش بسلام ووئام مع أقلية بيضاء استوطنت بلدهم بدءاً من مطلع القرن التاسع عشر..
ربما بعضكم لا يعلم مقدار الأذى الذي طال الرجل الهزيل، فبرغم أنه سليل أسرة معروفة ومتميزة تبوأت مقاليد الحكم، إذ يكفي هنا الإشارة لأن جد غاندي شغل منصب رئيس لحكومة الولاية، كما أن ولده أيضاً رأس حكومة الإقليم وتولى مسئوليات..
ومع هذه المكانة العائلية والوظيفية ماتوا جميعاً بسطاء وفقراء وكأنما هؤلاء القوم أقرب للملائكة لا البشر الذين إذا ما حكموا تفرعنوا وتسلطوا ونهبوا وقتلوا، وإذا ما رأوا مالاً أو عقاراً أو ثروة زاغت عقولهم وانتفخت كروشهم وزادت مطامعهم ولصوصيتهم وخرابهم..
غاندي لا يشعرك وأنت تقرأ سيرة حياته "في سبيل الحق"، أو كما يطلق عليها أيضاً " قصة حياتي " بكونه زعيماً سياسياً وتاريخياً وكفاحياً فحسب؛ وإنما تجد فيه قيمه إنسانية وإيمانية ومثالية وسلوكية وفكرية تتعدى موطنه الهند إلى دول العالم قاطبة، نعم إنه ومثلما قال شوقي في قصيدته " تحية لغاندي " يشبه الرسل في زهده وصدقه وتواضعه وإيمانه القوي والمطلق بالحق والعدل والحياة الحرة الكريمة.
ربما أخذتكم بعيداً عن فكرة الموضوع؛ لكنني أجد في شخصية غاندي ما يبرر الخرق لسياق الحديث عن طريقته المبتكرة الملهمة اليوم لثورات الشعوب، فلكم أن تتصوروا كيف أن الرجل وهو يسرد قصته لم يخف شيئاً ذي بال إلا وأورده كما هو ودونما زيف أو تحفظ.. يذكر مرة كيف انه لم يحتمل سرقة أخيه بضعة عانات؟ وكيف أنه كاشف أبيه بفعلته الطفولية مستسلماً لعقوبة والده طريح مرضه؟ وكيف أن اعترافه بذنبه قوبل برضاء وابتسامة ودموع وغفران لم يكن بخلده؟.
خلال دراسته في المملكة المتحدة لم يهن أو يضعف لتلكم الظروف القاسية مناخياً ومعيشياً وتعليمياً وثقافياً وعقائدياً وحضارياً، فبرغم قسوة العيش في بلد لا يستطيع مجتمعه الحياة دون لحم البقر والبيض والجعة؛ إلا أن الشاب الغض النحيل قدر له قضاء ثلاث أعوام دونما يخلف بوعده لأمه وزوجته وإخوانه.
يعترف بأنه لم يبتلع شريحة لحمه أو يشرب مرقاً أو خمراً، ليس للمسألة علاقة بمعتقده الهندوسي المحرم فيه أكل اللحم والبيض؛ وإنما وفاءً لعهد قطعه لأمه وأهله مقابل موافقتهم له بالسفر إلى بريطانيا، فبرغم أنه قد سبق له أكل اللحم لمرتين متتاليتين ومن وراء والديه حين كان تلميذاً في المدرسة، وكذا اعتقاده القوي الذي تشكل لديه تالياً مفاده : أنه ما من قوة ضعيفة وهزيلة لا تأكل اللحم يمكنها هزيمة المستعمر الانكليزي.
ومع اعتقاده بحتمية الثورة على التعاليم الموغلة في جمودها وتخلفها؛ ظل الرجل وفياً ومخلصاً لعهد قطعه، إذ وطوال فترة اغترابه التزم وبصرامة ومشقة بأكل كل ما هو نباتي وخالٍ من اللحم والكحول، كما أنه وبكل أدب وطهر يعتذر للفتيات الانكليزيات اللائي قدمن له كصديقات أو أنيسات معاشرة؛ لكنه لم ينسق خلف شهوته ونزوته، إذ كتب بلطف وتعفف جم قلما تجده في اناس كُثر يدعون العفة والطهارة والزهد والتنطع في الدين، فيما هم في جوهرهم جامحون للرذيلة والشهوة والجشع والرياء وأكل السحت وووالخ.
الكلام عن غاندي يستلزمه كتاباً لا تناولة كهذه، إنه صنف أقرب للأنبياء منه للزعماء أو القادة التاريخين الذين نذروا حياتهم لأوطانهم وشعوبهم، وعندما نطلق مثل هذا الوصف؛ فلأن الرجل جدير به، لقد عاش حياة بسيطة يغمرها المحبة للخير والسلام والتوقير للآخر أياً كان جنسه ولونه ودينه ومعتقده، قاوم وببدنه النحيل شتى صنوف التمييز والاضطهاد والعنف، نذر عمره في سبيل حرية وطنه وشعبه، رفض كافة مغريات الثراء والهيلمة والسلطان، زهقت روحه ثمنا لإيمانه المطلق بقيم المحبة والتسامح والتعايش والنضال السلمي المدني الحضاري، 21سنة عاشها منافحاً ومناهضاً للتمييز العنصري في جنوب إفريقيا، ومنذ عودته لوطنه سنة 1914م وثورته لم تهمد أو تتوقف إلى أن تحقق الاستقلال الكامل لبلده عام 47م وفي العام التالي قتلته رصاصات متطرف هندوسي فيما هو ذاهب لصلاته.
لم أحدثكم كيف أن اسمه ارتبط بثورة الملح، وكيف أن 6أبريل صار تاريخاً لحركته السلمية المناهضة للاستعمار البريطاني، كيف أنه بدأ نضاله من داخل أسرته الصغيرة وتحديداً زوجته وأولاده الذين أجهد ذاته في تربيتهم وتعليمهم بعيداً عن المدرسة وبمنأى عن زخرف الدنيا ومتاعها.. لقد عانى الكثير كي ينزع عن قرينته ما ألفت عليه من نظرة محتقرة للهنود المنبوذين، ومن سلبية وتقاعس نحو الآخرين، ومن حرمانها التليد لمظاهر البذخ واليسر..
ذكر أنه رفع يده مرة في وجهها، وهمَّ في طردها خارج داره إثر تأففها من غسل حساء أكل منه هندي منبوذ أثناء إقامة الأسرة في جنوب إفريقيا، كما وذكر مقدار ما بذله من محاولات لإقناع زوجته بتخليها عن حليها الذهبية المهداة لها قبيل مغادرة بريتوريا، إذ كان وقتها قد تبرع ونجليه بكل ما أهدي لهم من مال أو مقتنيات ثمينة نظير ما قدمه للجالية الهندية..
لم يكره زوجته على فعل شيء يظنه هذه المرة بالذات أمراً شخصياً وطوعياً يتعلق بها، ظل يكرر محاولاته إلى أن اقتنعت في النهاية وسلمت هديتها لبعلها راضية ومقتنعة بفكرة التأسيس لجمعية تعنى بالهنود الإفريقيين، والتي أسسها غاندي قبل عودته إلى وطنه، وكان نواة هذه الجمعية تبرعات عائلته بكل ما حصلت عليه من هدايا.
أطلت عليكم؛ لكنني مع ذلك لم ولن أفي الزعيم الإنسان الناسك حقه، فيكفي القول هنا أنه وعندما اندلعت ثورة استقلال باكستان بقيادة محمد علي جناح كان غاندي قد رفض استخدام منطق القوة، إذ لاذ إلى وسيلة الاعتكاف، معلناً للطرفين المتقاتلين صيامه عن الكلام والزاد والشراب إلى أن يتوقف إراقة الدم وعودة المتصارعين لجادة الحق والسلام والمحبة والمنطق والتحاور.
محمد علي محسن
قصة زعيم يشبه الرُّسُل !! 1981