من قال إن علي عبدالله صالح رحل أو سيرحل؟.. نعم رحل من قصر الستين وسيرحل من المؤتمر ومن ميدان السبعين؛ لكنه سيبقي فينا عمراً مديداً, فحتى وإن أتاه عزرائيل اليوم أو غداً فإن رحيله عن دنيانا ليس إلا رحيلاً جسدياً، إذ سيظل الزعيم خالداً في فعله وفساده ونظامه ورئاسته وكذبه وحيله على أقل تقدير لنصف قرن قابلة..
شخصياً سأحفظ له بضحكة كبيرة كلما تذكرت مبادراته المتكررة لإصلاح الأمم المتحدة أو الجامعة العربية، سأظل أذكره كلما جاءت سيرة التوليد النووي لطاقة الكهرباء وحين يأتي ذكر سكة الحديد, المهرة- حجة, التي انشأها، أو قضائه على البطالة والفقر وفي ظرفية لا تتعدى السنتين، كما ولن تبارح ذهني خطبه العصماء شبه اليومية, أو قدرته المذهلة لجعل المدن ثكنات عسكرية، ومن اللوكندات والشقق جامعات وكليات ومعاهد علمية..
نعم ستظل صورته محفورة في ذاكرة ملايين اليمنيين؛ ولكن ككارثة ومأساة, أو قولوا نكبة عظيمة طالتهم وعصفت ببلادهم ووطنهم وثروتهم ومقدراتهم وحتى مساعداتهم وإغاثاتهم التي هي الأخرى لم تسلم من عبث الزعيم ورجاله ورموز سلطانه، فأغلب الظن أن هؤلاء لن ينسوا صنيعته بهم، فيكفي أن تنظروا في وجوه المحيطين والمتحمسين جداً لزعامة صالح للمؤتمر وللدولة والحوار والهيكلة؛ لتعرفوا حجم النكبة والدمار، ولتدركوا, أيضاً, معنى الوفاء والجميل الذي يجب أن يرد لصاحب الفضل فيه..
كيف سيرحل عنا وهو قد ترك فينا جيشاً عرمرماً من العابثين والفاسدين والمنافقين؟, كيف سيمحى اسم وصورة صالح من الذاكرة الجمعية ومن حياتنا اليومية وهو الحاكم الذي في عهده تطاول الأقزام والجهلة، وتسلطن اللصوص والقتلة والمهربين، وشاع الكذب والغدر والنفاق؟, كيف يمكن لثورة, أو حكومة, أو مبادرة واتفاق, أو حوار, إسقاط الزعيم ، وطي صفحته وذكراه فيما هو أشبه بفيروس تجده مستنسخاً إلى مليون شكل وصورة؟, كيف ستطوى ذكراه وينسى سريعاً ولدينا في كل مرفق ومؤسسة وجامعة وصحيفة ومحافظة ووزارة وحزب مليون قرين وشبيه؟, كيف سيذهب نظامه إلى الأبد ودون رجعة فيما الواقع يؤكد أنه باق برجاله وأفعاله وقراراته وترقياته وامتيازاته وهباته وعطاياه وقبل هذه جميعها بثقافته المفسدة لكل نظيف ونزيه؟, كيف رحل أو سيرحل وفينا من يماثلونه في جبروته وقهره وتمييزه وفساده؟..
سيظل خالداً كذكرى مؤلمة موجعة يستلزمها زمن من المداواة والعناية، فهذه حضرموت لا يبدو أنها ستتعافى من إدمانها لشجرة إبليس " القات ", وتلك عدن منهكة مدمرة منهوبة ستحتاج عشرات السنين كي تسترد عافيتها، وذينك الإرهاب يفتك فينا كل وقت، وتلكم القبيلة والسلاح فوق الدولة والقانون.. فكيف سيرحل وهو الرئيس الذي أقحم فلاسفة السياسة والفكر والمنطق بقدرته المذهلة على ترويض إرهاب القاعدة، وخطم جمهورية أفلاطون وارسطو وجاك روسو الجمهوري الأول وجعلها مجرد حصان طائع يمتطيه وعائلته متى شاءوا؟, كيف سيرحل وهو من سن وابتدع لكل وزارة ومحافظة عشرات الوكلاء، وبدل شهداء سبتمبر واكتوبر شهداء الوحدة والجمهورية، وبدل جيش الدولة جيش العائلة والقبيلة والطائفة، وبدل الكفاءة والنزاهة طابور من الجهلة والفاسدين والانتهازيين، ومكان كل قامة وطنية ونضالية وسياسية وثورية حل الابن القزم والحفيد المنافق والعم اللص والصهير الجاهل, وهكذا المتوالية العجيبة سادت معظم وظائف الدولة، فلم تسلم حتى المقبرة والزنزانة من وراثة حراستها؟!..
كيف سيرحل وتزول ذكراه بسرعة وهو من نراه كل لحظة ووقت وفي كل مكان وزمان, نراه في خبزنا الهزيل، في طرقنا الاسفلتية الغبراء- هل قدر لكم رؤية اسفلت أغبر في العالم ؟ - في فلل وأسوار وأبراج المسئولين، في ضميرنا الفاقد الشعور والاحساس، في شركات واستثمارات وقنوات وبنوك الأهل والأقارب والأتباع، سنراه في مواسير المياه المغشوشة، وفي أعمدة الإنارة الطافية باستمرار، وفي انقطاع الكهرباء، وفي مدارسنا وتعليمنا المكرس للتجهيل والأمية والغش؟!..
فحين يقرأ المرء تقرير البنك الدولي الذي يؤكد تخطي اليمنيين نسبة النصف ممن هم تحت خط الفقر، فينبغي ألا ينسى عهد صالح، عندما يشير وكيل وزارة الداخلية د/ رياض القرشي لـ70 ألف كقوة فائضة في الشرطة من جملة 190 ألف جندي وضابط، فعليه تذكر صورة الزعيم، كذلك هو الحال عندما يجهر رئيس الجمهورية بسرقة مئات المليارات في مؤسسة الجيش وحدها, وحين تم ضبط 115كيلو كوكايين في حاوية تتبع المؤسسة الاقتصادية، أو سفينة تهريب لصواريخ طيران ومواد متفجرة، فهذه كلها ماركة مسجلة كفيلة بحفظ الزعيم ونظامه ليس لعقود, وإنما لقرون..
سنشاهده حاضراً مع كل عدوان يطال أنبوب النفط أو خبطة ترمى فوق خطوط الضغط، سنرى صورته ماثلة في مسئولين كُثر يمارسون الدجل والغش، ويبيعون الناس الوهم والكذب ويسرقون الخبز والدواء، ويقتلون الأمل والحلم، ويتاجرون بكل شيء: الإنسان والكرامة والأرض، سنشاهده في جامعاتنا وشهاداتها ومخرجاتها الرديئة، وفي مستشفياتنا الحكومية المهملة، وفي أدويتنا المهربة، وفي قذارة وطفح شوارعنا ومدننا، وفي وجوه أطفالنا وشبابنا الشاحبة الكالحة نتيجة الفاقة للغذاء والبروتين..
سأذكره حين يزور الرئيس/ عبد ربه مدينتي وعملي، على أقل تقدير أنني من الآن وصاعداً لن أشاهد ذلكم الجيش الجرار الذي كان يرافق الرئيس السابق، سيأتي الرؤساء القادمون لمدينتي دونما ينغصون علي حياتي المعتادة أو يمتهنون كرامتي مثلما كان سائداً في عهد البار الرمز المشير الفارس، سأذهب إلى شغلي دونما أشعر بالقرف والاشمئزاز من كتائب التفتيش وهي منتشرة بكثافة وهي تقتحم غرفة نومي دون إذن وهي مدججة بمختلف العتاد الحربي في أبوابنا وأزقتنا وفوق سطوح بيوتنا..
أصدقكم أنني لا أنساه مطلقاً، ففي عهده الميمون تمزقت أفئدة سبأ إلى مليون قطعة وفي كنفه تشطرت مساحة البلاد إلى ألف كانتونة وكيان، ألم اقل لكم بأنه وإن رحل من الرئاسة سيبقي فعله منهجاً وطريقة تلازمنا في كل مناحي حياتنا، انظروا في وجوه وكروش وأفعال القادة العسكريين لتدركوا كم سنحتاج من الوقت كي نقيم جيشاً وطنياً منضبطاً ومحترفاً لمهمة الذود عن حياض الوطن وشعبه ومكتسباته, تأملوا الأمن ومسمياته وكياناته وقياداته وممارسته لتعرفوا حقيقة الحاجة لعشرات السنين كي نشاهد الأمن في خدمة المواطن..
دعكم مما يفعله الآن في السبعين، ودعكم من تصرفاته المجنونة ومن إنفاقه لمئات الملايين كيما يسترد سلطانه المسلوب، سأحدثكم هنا عن منجزاته التي لا تمحى، عن طاقة الكهرباء البالغ مقدارها أقل من طاقة المسجد الحرام، عن المنطقة الحرة بعدن ومساحتها المستولى عليها من حيتان الفساد، وعن تجارتها وملاحتها ومينائها الذي بالكاد يستقبل سفينة أو اثنتين، عن حقول النفط والغاز التي صارت في حكمه اقطاعيات موزعة بمرسوم رئاسي، وعلى الأقارب والقبائل, عن الوظائف العليا وعن السفارات والملحقيات والمؤسسات الدبلوماسية والعسكرية والأمنية, فجميع هذه المسميات تم توزيعها هبات وعطايا ومكرمات على المقربين والموالين، عن الأحزاب والصحف والقضاء والبرلمان وحتى نقاط الأمن في الطرقات؛ فكلها منجزات يصعب استبدالها على المدى القريب؛ بل ستظل شواهد حية تذكرنا كلما أردنا نسيان حقبة كئيبة أخذت منا أجمل سني عمرنا..
أبرهة الاشرم ترك لنا كعبته المشرفة " القليس " وصالح سنذكره بجامعه " الصالح " المقام في السبعين من دمنا وعرقنا ومالنا، الأول أراد استبدال وجهة حجيج الله من مكة إلى باب اليمن والآخر استبدل قبلة قاصديه من قصر الستين إلى جامع السبعين.
ختاماً أترككم لقراءة ما نشرته صحيفة يوديت الهولندية مؤخراً, لتدركوا استحالة رحيل علي عبدالله صالح ولمجرد أنه لم يعد رئيساً, فتحت عنوان " بوديت باليمن " كتبت الصحيفة التالي: إنهم أيضاً أكثر الناس إثارة للذهول والمفاجأة, خذوا مثلاً الرئيس السابق/ علي عبدالله صالح, في البلدان العربية الأخرى التي مرّت بها رياح الربيع العربي فإن الزعيم السابق إما مقتول أو منفيّ أو في السجن.. هنا يفتتح علي عبدالله صالح متحفاً جديداً.. متحفٌاً عن شخصه وحياته هو.. أمر محزن.. لكني في الحقيقة لا أستطيع إلا أن أضحك على هذه المفارقة.
محمد علي محسن
حقاً لن يرحل ببساطة!! 1898