بعد رحلة لخارج الوطن لم تتجاوز الشهر، وبعد تجول ماتع في بلد عربي مترف، حيث المباني العالية وبهرجة المترفين, والشوارع المتسعة المنظمة، النظيفة والهواء الخالي من التلوث والأجواء الهادئة...حان موعد رجوعي للوطن ودنت ساعة صعودي (اليمنية) وعلى (باص) المسافرين الذي ينقل الركاب من قاعة المغادرة إلى سلم الطائرة، هناك شعرت بأني وطأت بالفعل بقعة من بقاع وطني الحبيب، حين انكسر الصمت الرهيب الذي لفني طوال الأسابيع القليلة الماضية أثناء تنقلي في مدن تلك البلاد.. مشهد حي قصير نقلني فوراً للوطن، حين علا من حولي ضجيج الحياة اليمنية بثورتها الموءودة وبمفارقاتها المدهشة.. بدأ المشهد بنشوب نقاش حاد بين رجلين من عناصر المسافرين (من مواطني بلدي العائدين لأرض الوطن) التفت لأرى شاباً مهندماً في ملبسه، متحاذقاً في منطقه، متحمساً يلعن الزمن الماضي ويستهزئ بجهالة الآخر الذي لا يدرك حجم ثروات أرضه المطمورة قسراً وبيد خارجية عليا ـ حسب زعمه.. ورجل كهل، جاحظ العينين، منتفخ الأوداج، محمر الوجنتين تشتعل ملامحه غضبا مما تفوه به الأول، فأخذ يجادله راداً كافة مزاعمه.. ومسفهاً لآرائه.. وبعيداً منهما وقف مسئول كبير طالما رأيته في نشرات الأخبار وقد التزم الصمت.. واتسع الجدل حين تطاول ذلك الشاب على رمز لشيخ ملتح يقف بجواره، فانبرى ذلك منافحاً عن رمزه.. و( قبيلي) بملابس شعبية سمع باسم شيخه يهان، فدخل المعمعة واهتز بدنه مدافعاً.. وانخرط في النقاش جل الأطراف المحايدة ما بين مهدئ للقوم ومؤيد لبعض الرؤى ومعارض للبعض واحتدم الجدل وعلت الأصوات، حتى بدأ رأسي ينتفخ وكاد يصيبني دوار من شدة الصخب..اقتربت مني امرأة وقالت لي : إلى أين وجهتك؟.. قلت لتعز.. قالت : مال قومك يتجادلون؟.. نظرت لأرى هل هي من جنوب اليمن، فأردفت مؤكدة ظني وهي تشير لزوجها : إحنا من الجنوب مالنا ولهم (يسدون)!!..
وفي الوسط وقفت قبالتي امرأة شابة بصحبة زوجها وطفلهما الأول (من أبناء البوسنة والهرسك) طالبان في أكاديميات خاصة في صنعاء تدرّس العلوم العربية والإسلامية!!، يتكلمان العربية بطلاقة تدل على طول مدة دراستهما واستيطانهما صنعاء، علق زوجها على أحد المتجادلين قائلاً: هذا لابد أنه من أنصار المخلوع!.. ضحكت زوجته وقالت: صحيح، لكن لا تهتم بعد قليل سوف يهدؤون، هكذا هم أهل اليمن يفورون للغليان ويهدءون بسرعة..
والمفارقة الأعجب والتي وقفت أمامها ملياً هو أنه بعد تذمر النساء وبعض العقلاء من ضجيج الجدال الذي طال بسبب تعطل (الباص) الذي وقف منتظراً ركاباً متأخرين عن الموعد ( وهذا لم يحدث في رحلاتي السابقة على غير اليمنية)، حاول البعض إسكاتهم وإنهاء الجدال، فلم يفلح، فانبرى شاب من أبناء البلد الذي كنا فيه (يبدو أنه سائح متوجه لصنعاء) وصاح بهم وأسمعهم بعض العبارات وأغلظ لهم القول، فسمعوا له وانصاعوا وهدءوا، فأخذ هو يردد التلبية (لبيك اللهم لبيك) فردد الجميع خلفه التلبية ونسوا جدالهم وتعالت ضحكات الجميع!!.. تحرك (الباص) وأوصلنا لسلم الطائرة وانتهى المشهد.
كان مشهد جدال لا يمت للحوار الراقي بصلة.. لكن نتيجته الهلامية المفتوحة والقوى الخارجية التي حسمته بنهاية مهيمنة لم تكرس لقيمة أصيلة ولم تعل شأن المحق ولم تبين للمخطئ خطأه ولم تعالج أي قضية, وكون النهاية جاءت بفعل خارجي أشعرني بالبؤس، وضغط المشهد برمته على وجع الوطن النازف من تواجد غرباء كثر دون رقيب لأغراض تواجدهم فيه, وسهولة تدخل الغير في شؤونه، وتعرضه للنقد الغير بناء من هؤلاء بدون التصدي لذلك بطرائق مشروعة وراقية لحفظ كرامة الوطن ومواطنه.. وبقاء العصبية الجاهلية والتعصب الأعمى في أبنائه، وتقديس الرموز وشيخ القبيلة والاقتتال لأجلهم, والتشرذم الحادث بين أبناء شطريه، بسبب كل هذا الخلل, وبسبب تسلط الوصاية الغير رحيمة على هذا الوطن الطيب والذي لا ندري حتى متى سيبقى قاصراً.. فهل سيتكرر هذا المشهد الهزلي، وهذه النتيجة البائسة في مؤتمر الحوار القادم؟.
التاريخ المجيد لهذه البلاد العظيمة وهذا الشعب الخالد يبرأ من كل هذا الجهل والضعف والتبعية والذل والتشرذم والتعصب المقيت الذي نسقيه سماً لأرضنا الطيبة، فنقتل حاضرها ومستقبلها.. ولسوف يسطر التاريخ أسماء المتحاورين في مؤتمر الحوار الوطني، فلينظروا بأي لون يريدون تسطيرها، هل بأبيض مشرق أم أسود محرق؟.
نبيلة الوليدي
اليمن.. في مشهد قصير 1720